TG Telegram Group Link
Channel: قصص بنفسج 💜
Back to Bottom
الفصل الثالث عشر: السهم الفضي
هبت النسائم العليلة لتتراقص وريقات الأشجار بخفة و تتمايل الأغصان،
كان حفيف الشجر هو الصوت الوحيد في دائرة الصمت، و لكأنه موسيقى خالدة تتردد في جنبات الغابة منذ دهور،
تحت تلك الشجرة، جلس وحيدا ليستمع لألحان الغابة بشجن و يواري دموعه عن رفاقه،
ليبث همه للأشجار العالية و يتشارك دموعه مع أعشاب الأرض.

مسندا ظهره للجذع السميك قرب ركبتيه لصدره ليتنهد و ينظر للسماء بعينين ترابيتين قاتمتين تفيضان حزنا،
أخفض بصره ليحدق بالحجر الأملس المغروز على الأرض ليهمس:
" أ تذكرين؟ ذلك القماش الأزرق السحري الذي كنت تحبينه كثيرا،
عندما جئنا للغابة و صرت نائب إيلين؟
لقد سعدنا بذلك كثيرا و أردت تصميم ملابس لي لتانسب منصبي كما قلت،
ذلك القميص ذو الأكمام المطرزة بالأسود، و البنطال الأزرق و الحزام الجلدي الأسود؟
هذه الملابس الجميلة ما زلت أرتديها، و سأظل للأبد"

تنهد لينهض و يسير ليجثو قرب الحجر ثم يخفض رأسه،
ليتلمس الحجر ببطء و تنزل دموعه،
اقتربت جنية من جنيات أزهار الأوركيد بفستانها القرمزي و شعرها الأسود كذيل حصان من خلف الشجرة لتراقبه بحزن و تحلق بخفة لتهبط على رأسه،
تنهدت لتضع يديها الصغيرتين على شعره الأسود القصير و تخاطبه:
" سيد كالان... هكذا ستهلك نفسك.
نحن بحاجة لك، جميعنا نحبك، لا تقتل نفسك بالحزن"

ابتسم كالان بذبول ليضع يسراه على صدره و يخاطبها:
" و كيف لي ألا أحزن لفقد سيرينا؟ كيف لهذا القلب ألا يتألم؟"

" لا تؤذ قلبك، هي بالتأكيد لن تكون مرتاحة و هي تراك تعذب نفسك هكذا كل يوم، مع استمرارك في هذا ستكون تتجه لحتفك.
كثيرون من الإلف يموتون بسبب الحزن، هل تتخلى عن حياتك بهذه السهولة؟ ابنك يحتاجك أيضا"

رفع كالان رأسه لتطير الجنية و تقف على كتفه ليخاطبها:
" أنا لا أخاف الموت، ما هو مقدر سيأتي"

ثم تنهد ليضيف:
" لو كان بيدي بالتأكيد سأرغب أن أكون معها،
لكن لدي الكثير من الأمور على عاتقي الآن، إيلين تثق بي و لن أخذلها، لا تقلقي أوركيدة"

ابتسمت الجنية الصغيرة لتتنهد براحة و تطير بعيدا عن كتفه،
لينهض كالان و ينفض ملابسه،
ثم ينحنى للحجر الأملس بتقدير و يسير مبتعدا تتبعه أوركيدة محلقة في الهواء.

أصغت أوركيدة سمعها لتطير قربه بسرعة و تقول:
" يوجد عفريت في الجهة ج.ج.غ "

رفع كالان حاجبيه عجبا ليسألها:
" عفريت؟!"

رفعت أوركيدة كتفيها لتجيبه:
" قالت شموس بأنه يأكل الحيوانات و الغزلان،
و قام بإحراق بعض الأشجار"

هز كالان رأسه ليخاطبها:
" فالتخبري آريون، سأحاول التخلص منه ريثما يأتي"

فرقع الجني أصابعه ليختفي فجأة و تطير الجنية الصغيرة بسرعة نحو الجهة الأخرى.
طارت أوركيدة بسرعة لتتحدث بما جرى عندما هب النسيم،
أصغت جميع الجنيات الصغيرة أسماعها لتعلو أصوات ثرثرتها و تصل لأرجاء الغابة الفسيحة.
أصغت تفاحة للهمسات الصغيرة لتلتفت لآريون و تخاطبه:
" كالان يحتاجك في جهة الجنوب الجنوب الغربي،
اذهب له بسرعة"

أومأ آريون بملامح مستغربة ليسألها بابتسامته المعتادة:
" و منذ متى يطلب السيد كالان شخصيا مساعدتي؟!"

هزت تفاحة رأسها لتخاطبه بنبرة مستاءة:
" يوجد عفريت من نوع المردة في الغابة و أنت تلقي طرفك الآن؟"

فتح آريون فاه دهشة لتتغير ملامحه ثم يختفي في لمحة بصر.

حدق كالان بذهول نحو صف الأشجار المحترقة المتفحمة لتصير صفوف من الأشجار مجرد خط أسود من الرماد و بقايا الفحم،
كان بإمكانه سماع نحيب الجنيات الصغيرة على صديقاتهن اللاتي متن مع أزهارهن،
انتشر الصوت ليعبر الغابة بأسى، لتسمعه الحيوانات و الجن و الأقزام فقط.
اقترب كالان ليتلمس الأشجار المحترقة في منطقته بأسى و ذهول،
ليسرع لتتبع خط الأشجار المحترقة ليصل لمصدرها،
ليتوقف بفزع لرؤية المارد العتي الذي يقف أمامه.
بطول أكثر من ثلاثين مترا، بجسد ضخم دخاني أحمر مشتعل كاللهب،
كانت قرونه السوداء العظيمة بارزة في منتصف رأسه،
عينان سوداوتان و فم كبير مليء بالأنياب يستطيع بلع بقرة في دفعة واحدة،
النيران تحيط به و كأنه من حراس الجحيم.

توقف كالان ذاهلا ليلتفت العفريت بسرعة نحوه بحقد لتتغير ملامحه و يخاطبه ساخرا بصوت أجش مخيف:
" إلف ! ماذا تفعل هنا أيها الحشرة؟!
ابتعد قبل أن أسحقك في لحظة"

حدق كالان نحو العفريت العملاق بحقد ليجيبه:
" ماذا تفعل هنا؟ هذا المكان ليس للعفاريت لذلك ابتعد لو لم تكن تريد أن تتأذى"

ابتسم العفريت لتزداد النيران حوله و تزداد بشاعته ليقهقه و يخاطب الجني بازدراء:
" أتأذى؟! هل نسيت نفسك أيها الحقير؟!
هل تتخيلني جني زرع صغير يمكنك دهسه بقدمك؟
الأمر مشابه، أنت هنا كجني الزرع بالنسبة لي،
يمكنني قتلك بسهولة لذلك لا تتفوه بالهراء.

أنا لم آتي هنا لرؤية هذه الغابة الصغيرة التي تسكنها الكائنات الضعيفة و المنبوذون؛ بل لإحضار بعض الأحجار السحرية لزبون مهم، لا تقاطع عملي"

عض كالان شفتيه ليقبض يده بغل للإهانات التي يوجهها له العفريت لكنه آثر الصمت و هو يفكر،
عشيرة العفاريت هي الأقوى ف
ي الجن،
ضربة جادة واحدة من ذلك العفريت قد تقتله لذلك عليه التفكير بحيلة تخلصه.

دعا كالان في قلبه ليحمل قوسه من ظهره و يخرج سهما من كنانته ثم يصوبه بسرعة نحو رأس العفريت،
تلاشى السهم المعدني لرماد عندما لمس العفريت الذي التفت نحو الإلف ليتحول لدخان أحمر و يطير نحوه بسرعة.

ركض كالان بسرعة بين طرقات الأشجار الأقل كثافة بينما العفريت يلاحقه لإحراقه،
تفادى كالان ألسنة اللهب الحارقة بصعوبة لتحترق عدة أشجار خلفه و قربه،
استمر كالان في العدو و العفريت خلفه إلى أن وصل لجدول كالاس، حفرة المياه الأعمق في الغابة.
توقف كالان لينثر بعض الرذاذ المضيء في سطح المياه لترتفع في الهواء و تتجه نحو العفريت،
ابتسم العفريت ليخاطبه:
" ماء إذا؟! هل هذا كل ما تقدر عليه؟"

ارتفعت ألسنة اللهب لتتجه نحو كالان، بيد أن المياه حولتها لبخار،
ازدادت ألسنة اللهب لتبخر كل المياه و تتجه نحو كالان لتلفحه بحرارتها و يختفي،
بينما ابتسم العفريت برضا و اقترب لأخذ رماد الإلف و الإستفادة من مقايضته مع بعض المشعوذين.

ظهر كالان خلف ألسنة اللهب ليرفع قوسه و يطلق سهمه الأخير الذي انطلق بسرعة مع أثر ذهبي خلفه،
ليصيب العفريت في عينه اليمنى و ينغرز فيها بعمق ليصرخ العفريت و يتحول لدخان ليسقط السهم أرضا مع قطرات دم سوداء،
أخذ كالان أنفاسه بصعوبة ليجثو على الأرض بعد أن احترقت يمناه لتصير حمراء و انتشرت الحروق في وجهه و جسده، احترق حزامه الجلدي الأسود و أطراف
قميصه الأزرق و حذاءه، بيد أن ملابسه السحرية قد حمته من معظم اللهب.
اقترب العفريت ليتشكل مجددا بشكله العملاق و يحمل كالان بقبضته العملاقة ليعصره بقوة و كأنه يريد سحقه و يخاطبه بحقد:
" إذا  لديك الجرأة لمواجهتي و أذية عيني!
الويل لك!"

ابتسم كالان ليخاطبه بإرهاق:
" أفعل ما تريد، أنت مجرد وغد حقير"

صرخ العفريت بغضب ليشعل النيران و يرفع كالان للأعلى لالتهامه،
أغمض كالان عينيه ليصلي للإله في سره بأن يظل ابنه الصغير بخير.

نظر ألفين للدخان المتصاعد في جهة بعيدة من الغابة ليطل عبر النافذة و يقول:
" لا بد أن خطبا جللا قد حدث... لنذهب يا إيلدون"

نهض إيلدون ليحمل كنانته و قوسه و يخاطب ألفين:
" و لمن سنترك صغير كالان؟"

فكر ألفين مليا ليبتسم و يخاطب لينيريا بسعادة قائلا:
" لينيريا! هل يمكنك الإعتناء بالصغير في الغرفة المجاورة؟"

أومأت لينيريا بحماس ليربت ألفين على كتف إيلدون ثم يختفي الإثنان،
تأملت لينيريا المنزل الخشبي الفسيح بسعادة لتسأل إيريس:
" هل لدى السيد كالان ابن؟"

أومأت إيريس لتجيب:
" بلى، لديه ابن صغير بعمر العام يدعى نيدهوغ،
توفيت والدته قبل شهر تقريبا"

أومأت لينيريا لتقول:
" مسكين نيد.. نيدهو..هو"

ضحكت الجنيات لتضيف لينيريا:
" أسماءهم غريبة! سأسميه نيد!"

ركضت لينيريا للغرفة التي أشار لها ألفين برفقة الجنيات الصغيرات لتقف على أطراف أصابعها لتصل لمقبض الباب العالي،
ساعدتها الجنيات لتدفع الباب لتدخل بهدوء و تنظر في أرجاء الغرفة،

سرير واسع كبير يتوسطها مع صندوق خشبي في جانب الغرفة و طاولة و كرسي فقط،
اقتربت لينيريا بهدوء من قطعة القماش المتلفلفة في وسط الفراش لتلاحظ وجه الرضيع النائم،
كان له وجه مستدير شاحب البياض، مع شعر بنفسجي فاتح خفيف الكثافة و حواجب و رموش بنفسجية كثيفة،
لاحظت لينيريا أذنيه الصغيرتين ذات الأطراف المدببة الطويلة كبقية الإلف،
حملت لينيريا الصغير ببطء لتلمس وجهه و تهمس:
" إنه جميل جدا!"

أومأت الجنيات بينما اقتربوا منه لرؤيته عن قرب،
لتضيف إيريس بصوت حزين:
" يشبه والدته كثيرا"

فتح الرضيع عينيه الرماديتين فجأة لتبتعد جميع الجنيات الصغيرات عنه بخوف،
ضحكت لينيريا لتسير به خارج الغرفة و تخاطبه:
" صباح الخير على العصافير!
أنا لينيريا! أهلا نيد الصغير!

لطالما تمنيت أن يكون لدينا طفل صغير أحمله و أعتني به، و ألعب معه و أغسل ملابسه الصغيرة و أحضر له الفراولة و أطعمه"

ابتسم الصغير ليضحك و يمد يده الصغيرتين ليلمس وجه لينيريا ليقرص خدها،
اقتربت الجنيات الصغيرات لتخاطبهم لينيريا:
" إنه لا يريد تركي، لكن يده قوية و تؤلمني.
هل يمكنكم إبعادها له بلطف؟"

سمع كالان صوت صفير سهم منطلق بسرعة خاطفة،
ليفتح عينيه لرؤية السهم الفضي المغروز في عين العفريت اليسرى،
تعالت صرخات العفريت ليفلت كالان ليسقط أرضا،
أخفض آريون قوسه ليرفع يده و يتلاشى السهم الفضي و يتمدد ليصير كالسلسلة،
استمرت السلاسل بالزحف عبر جسد العفريت لتنفجر عينه اليمنى و يتطاير منها الرذاذ الذهبي الخاص بسهم كالان،
ثم تضيق السلسلة أكثر بالعفريت ليتحول لدخان أسود ثم يختفي فجأة.

أسرع آريون ليجثو قرب كالان و يخاطبه بقلق:
" كالان... هل تأذيت كثيرا؟ أعتذر لعدم حضوري بسرعة، لو جئت بسرعة لتخلصنا منه بسرعة دون أن تقاتله مباشرة و تتأذى هكذا... الذنب ذنبي"

رفع كالان يسراه ليمسك بيد آريون و يهز رأسه مقاطعا:
" ليس ذنبك، لقد كان قويا، أكث
ر من ذلك الذي واجهناه قبل عام،
أرسله مشعوذ لجلب بعض الأحجار السحرية...

شكرا لإنقاذك لي، صديقي"

ابتسم آريون ليشد على يسرى كالان بامتنان،
خرج ألفين و إيلدون من بين الأشجار ليقتربا متسائلين:
" تخلصتما من العفريت؟"

" ياللهول! لقد أحدث الكثير من الفوضى.
لكن لقد اهتممنا بإخماد النيران و التأكد من سلامة المخلوقات، لا إصابات كثيرة و الحمد لله"

أومأ آريون ليجيب:
" لقد أرسلناه بعيدا بعد أن علمناه درسا، لن يعود مجددا"

اقترب ألفين و إيلدون ليجلسا قرب آريون و يحدقا نحو كالان بدهشة،
التفت ألفين نحو آريون ليسأله:
" هل كان العفريت بتلك القوة؟
كالان أقوى مني و من إيلدون..."

أومأ آريون بصمت ليضيف إيلدون:
" لو أننا كنا مكانكما، لكانت نهايتنا حتما..."

تنهد آريون ليضيف:
" لم يكن سهلا، بفضل سهم كالان السحري صار ضعيفا و استطعت إرساله بعيدا لكي لا يدمر المزيد"

أقترب آريون لينثر بعض الرذاذ المضيء فوق كالان و يضع يده على صدر الجني المصاب،
أومض المكان بشعاع قوي لينقشع و ينهض كالان بمساعدة آريون، اختفت كل الإصابات و الحروق.

ظهر الإلف الأربعة أمام الكوخ حيث يعيش الجميع عدا آريون،
ليشاهدوا نيدهوغ الصغير بحفاظته فقط جالسا على التراب بينما ملابسه معلقة على غصن الشجرة،
كانت لينيريا مستمتعة بإطعامه حبات الفريز الصغيرة بعد أن تمضغها ثم تقدهما له ليتناولها بسرور،
بينما الجنيات الصغيرات يجلسن حول الصغير يراقبنه باهتمام.

انفجر آريون ضاحكا و ألفين كذلك ليقترب كالان مبتسما و يجلس على الأرض قربهم و يخاطب لينيريا:
" إذا تعرفت على ابني نيدهوغ؟ هل هو مهذب؟"

أومأت لينيريا لتجيب بحماس:
" إنه لطيف جدا، و لا يبكي، و يحب الفريز جدا.
أريد أخذه معي للمنزل! أرجوك سيد كالان! سأعيده!"

ابتسم كالان ليجيبها:
" نيدهوغ جني صغير بعد على زيارة مدن البشر و عالم البشر، عندما يكبر أعدك بأن يذهب لزيارتك في المنزل"

هتفت لينيريا بسعادة لتتثائب و تضيف:
" كان اليوم ممتعا! لقد سعدت برؤيتكم جميعا!"

اقترب آريون لينخفض و يحمل لينيريا لتسند رأسها لكتفه ليخاطبها:
" سنعود لمنزل إيلين"

أومأت لينيريا لتلوح لروزي و توت و تخاطبهما:
" عودا أنتما أيضا لزهوركما"

لوحت الجنيات الصغيرة لتطير عائدة لأزهارها ليراقب آريون شفق المغيب و يهمس:
" المنزل... هل كان لي منزل يا ترى؟"

ابتسم آريون ليرفع يده محييا أصدقائه ليسير مبتعدا،
ليحمل كالان ابنه الصغير بلطف من الأرض و يجمع الملابس من الغصن ثم يعود للكوخ ليغلق الباب.
🌸
الفصل الرابع عشر: ساحر صغير
نظرت إيلين بعينيها السحريتين نحو البحيرة الذهبية تحت الأصيل لتلمعا ثم أجابت سوير:
" لا يوجد شخص خالد في هذه الدنيا يا سوير،
حتى نحن الجن نموت بعد عمر معين عندما يحين أجلنا،
السيد أصفر مثلا عمره مئات الأعوام، لكنه ليس خالدا و عندما يحين يومه سيموت.
أنا مختلفة عن بقية الإلف؛ وهبني الإله قدرات أكبر،
أستطيع استعمال السحر و تحقيق الأماني مهما كانت،
لكنني لا أستطيع إعادة الأموات.

لكن لو قدر و كان على قيد الحياة، سأبذل وسعي لأجده"

أومأ سوير بصمت و دموعه تكاد تنزل ليضيف السيد أصفر:
" لديك والدتك و جدتك و أخواتك، لماذا تبكي الآن؟"

أبتسمت إيلين لتربت على رأس سوير الذي مسح دموعه لتجري مجددا ثم أخفى وجهه في فستان إيلين،

قفز السيد أصفر من كتف إيلين ليركض بسرعة ثم يختفي،
ليعود السيد أصفر يسير ببطء بينما يسحب بمنقاره الصغير عربة خشبية صغيرة تحمل قطا أسود نائما.

توقف السيد أصفر قرب إيلين لتحمل القط برفق و تنثر الرذاذ الذهبي فوقه ليفتح عينيه،
اقترب آريون حاملا لينيريا لتلاحظ بعينين ناعستين القط الأسود الذي تعرفه،
قفزت لينيريا بنشاط من الجني لتركض بسعادة لتعانقه و تصرخ:
" أنت حي! هوكي حي!"

ابتسمت إيلين لتجيب:
" لقد كان قويا لمواجهة سوفيا، و تحلى بالشجاعة، لذا وجب علي مساعدته"

اختفت ابتسامة إيلين لتربت على ظهر القط و تضيف:
" بسبب أن السحر قد سكن جسده لسنوات، من الصعب التخلص منه نهائيا،
لذلك يجب عليه أن يبقى بهيئة القط هذه لسبع سنوات أخرى، بعدها سيعود إنسانا كما كان"

اقتربت لينيريا لتحمله و تقول:
" سآخذه معي للمنزل، و أعتني به إلى أن يتذكر عائلته و يذهب لهم كولد لطيف"

ابتسمت إيلين بحنان لتربت على رأس لينيريا،

التفت آريون ليضيف:
" أود الذهاب للعاصمة، سأعود بسرعة و أريد اصطحاب سارة معي"

أومأت إيلين لتجيبه:
" فلتذهب"

سار آريون مبتعدا لتضيف إيلين:
" أثر السحر قد تغلغل فيك يا هوكي لأنه منذ سنوات، عندما تنبت الزنبقة السوداء سأستخلص منها دواء لك"

أوما هوكي لتبتسم لينيريا و تحمله لتذهب برفقة إيلين و السيد أصفر للمنزل.

انحنى آريون ليجلس على الأرض و يخاطب داين، إيتري و بروك بابتسامة واسعة قائلا:
" إذا لقد التقيتم بديو منذ وقت طويل و لم تخبروني حتى!"

أشاح إيتري وجهه بينما نظر بروك نحو الأرض و بلع ريقه، رفع داين وجهه ليجيب:
" آسفون جدا لكن.. أرجوك لا تبتسم هكذا... أنت تخيفنا"

قهقه آريون ليضيف بروك:
" و تضحك كالأشرار كذلك"

هز آريون رأسه ليضيف:
" حسنا، سأتوقف لكي لا أخيفكم .
إذا، لقد استخدم تعويذة النقل البعيد لإرجاعكم للغابة.. ما زال جيدا"

نهض آريون ليتوجه للحكيم ثم ينحني له و يضع يده على صدره، انحنى الحكيم باحترام ليحمل آريون سارة على ظهره و يقول:
" تشبثي جيدا، سنذهب بسرعة"

فرقع آريون أصابعه ليختفي مع سارة في لمحة من البصر.

ظهر آريون مع سارة في طرف شارع من شوارع العاصمة،
كانت الشمس في وقت المغيب،
أخرج آريون معطفا ليرتديه و يضع القلنسوة على رأسه، اقتربت سارة ليجلس و يخاطبها:
" لن يحصل خير لو رآني بشري،
سيطاردونني لقتلي لذلك سنكون حذرين، و سنعثر على ديو بمساعدتك، حسنا؟"

أومأت سارة لتسأله:
" لماذا أنت مهتم به هكذا؟ منذ متى تعرفه؟"

تنهد آريون ليضيف:
" قصة طويلة سأقصها لك لاحقا، لنتحرك الآن"

تأففت سارة لتتبعه بصمت بين الطرقات.

كانت الطرقات مزدانة بأضواء النيون، و أشجار كاريماري البنفسجية تضيء الظلام بلونها الأخاذ ليجلس الناس تحتها،
جلست سارة على مقعد تحت إحدى الأشجار لتقول:
" إننا كمن يبحث عن إبرة في كومة قش و.."

توقفت سارة عن الحديث لتختبيء بسرعة خلف آريون،
التفت الجني نحوها مستغربا فهمست بصوت حزين:
" هناك، تلك السيارة السوداء قرب المحل التجاري،
تلك أمي و خالتي"

التفت آريون نحو السيدة ذات المعطف القرمزي من القطيفة و التنورة السوداء، مع شابة أصغر منها تمسك بيدها، كلاهما كانتا شقراوتين،
كان برفقتهما شاب طويل شاحب له شعر أحمر و شاب آخر أقصر منه قامة له شعر بني،
أشارت سارة لتقول:
" ذلك آدم! و ذلك فرانس، زوج إليسا خالتي"

"إذا هم يبحثون عنكم؟"

أومأت سارة لتهمس بأسى:
" لو ذهبت لهم الآن سيعتقدون أنك خطفتني، و سوير و لينيريا ليسا هنا... أنا.. اشتقت لهم،
أريد أن أكلم أمي و أعانقها"

بدأت سارة بالبكاء بصمت بينما تراقب السيارة السوداء و هي تبتعد،
التفت آريون ليجثو على ركبته مواجها لسارة ثم ضمها لصدره و ربت على رأسها ببطء،
أجهشت سارة بالبكاء لتقول:
" لقد اشتقت لأمي! و لآدم! و المنزل، و طبخ المنزل!"

" أنا آسف... سوف تعودين للمنزل قريبا، و سوف يطمئنون عليك و سيكون كل شيء بخير.
انظري الآن للجانب المشرق! لقد عرفتي أنهم بخير،
و لقد وصلتم لإيلين، هذا يعني أن عودتكم ستكون سريعة، و ستحقق جميع أمانيكم،
و بالإضافة لذلك صار لك أصدقاء جيدون من الأقزام في الغابة، و رأيت الجنيات، و صادقتي جنيا وسيما مثلي و هو يعانقك الآن
"

ضحكت سارة لتمسح دموعها و توميء،
التفتت سارة نحو الطريق لتشير و تصرخ:
" ديو!"

ركضت سارة لتمسك بمعطف الفتى الأكبر سنا و تقول:
" لقد عثرت عليك!"

التفت ديو بسرعة ليبعد يدها و يقول:
" ماذا تفعلين هنا؟ "

اقترب آريون ليتراجع ديو للخلف و يحدق نحو الشخص الذي يغطي وجهه بمعطف طويل،
ابتسمت سارة لتقول:
" أنت محاصر، فلتستسلم.
أخبرتك بأننا سنلتقي مجددا، و عندها.."

سارعت سارة لمحاولة لكمه ليمسك بيدها و يضيف:
" إذا جئت برجل شرطة ليقبض علي؟"

اقترب آريون لينزل قلنسوة المعطف و يردف مبتسما:
" مضى وقت طويل، سورانديو"

تراجع الفتى للخلف ليلتصق بالحائط بعد أن كسى الرعب ملامحه، ضحكت سارة و آريون ليمسك ديو من يده و يمسك بيد سارة ثم يختفي الثلاثة.

ظهر الثلاثة في منتصف الغابة ليتراجع ديو للخلف ليتعثر بحجر يسقطه أرضا،
اقترب آريون ليسأله:
" ما تزال خائفا؟ لن أقوم بإيذائك، لن نتعارك هذه المرة، اطمئن، أردت الحديث معك فقط"

جمع ديو أنفاسه لينهض و يجلس تحت أقرب شجرة،
رفع بصره للجني ليسأله:
" ماذا تريد مني، بعد كل هذا الوقت؟"

جلست سارة قرب آريون تستمع باهتمام ليجيب:
" أريد أن أعرف ما حدث، منذ خمس سنوات...
كيف اختفى دريموند، و كيف ما تزال على قيد الحياة، و لماذا تعيش كلص في العاصمة؟!"

تأمل ديو النجوم ليجيب:
" في ذلك الوقت...
في ذلك اليوم كنت قد عدت للمنزل، كانت تلك بداية العطلة، أذكر بأن ذلك اليوم كان معتادا،
كنت أدرس في غرفتي لتعلم تعويذة جديدة قبل أن يطلب أبي رؤيتي،
ذهبت لأبي و لا أذكر شيئا بعدها..."

أشار ديو للأعلى ليضيف:
" كل ما أذكره هو أنني كنت على الأرض خارج المنزل، قبل أن تسقط قذيفة صخمة فوقة و من ثم ينفجر كل شيء... كان الصوت هائلا... و النار.. ثم توالت القذائف على مناطق أخرى في نطاق أوسع، و ...
"

توقف ديو عن الحديث ليخبيء يديه المرتجفتين في جيوب معطفه و يضيف بصوت مرتعش:
" بطريقة ما لم أمت، كنت مصابا لكنني لم أمت،
لكن قواي السحرية قد ازدادت فجأة... لم استطع السيطرة عليها، كل من اقترب مني ليساعدني قد تحول لفحم و مات في الحال...

الجميع حاول قتلي، لكنني لم أمت،
جندي واحد أصر على مساعدتي و ابعدهم عني،
حملني ليذهب بي للمشفى، لكنه اصيب بطلقه من العدو،
أردت مساعدته و استخدام السحر لعلاجه، لكنه ... لكنه.."

غطى الفتى وجهه بكفيه ليضيف بصوت مرتعش:
" تحول كفه الأيسر لرماد، ازداد جرحه سوءا ثم ظهر ضوء و كأنه انفجار، ثم اختفى"

التفتت سارة بشفقة نحو الفتى الذي حاول جاهدا إخفاء دموعه لتسأل آريون بهمس:
" هل هو ساحر؟!"

أومأ آريون بصمت ليضيف:
" هذا الفتى ابن صديقي البشري الذي أخبرتك عنه،
كان والده دريموند حارس النجوم،
لديه قدرات سحرية متفوقة، كان يعمل لصالح الملك للتخلص من السحرة المنتشرين في مملكة نيون،
ديو ورث القدرة على استعمال السحر من والده،
و كان يدرس في مؤسسة في مملكة رام حيث أغلبية السكان يستخدمون السحر بعكس هنا.

كانا يزورانني في الغابة من حين لحين،
آخر زيارة لهما كانت قبل خمس سنوات عندما بدأت شرارات الحرب الأولى،
أوصاني دريموند على هذا الصغير و أخبرني بأنه سيكون في الصفوف الأمامية،
منذ رحيلهما... لم يعودا أو أسمع عنهما خبرا،
دريموند قوي... لا أتصور أنه فقد حياته بهذه السهولة لكنها أقدار الله،
حسبت أن ديو قد مات أيضا و "

اقترب ديو من آريون بملامح حاقدة ليخاطبه بأسى:
" حسبت؟ أنت لم تبحث عني حتى أو كلفت نفسك عناء السؤال ...
كنت سأموت لولا ذلك الجندي، ثم وجدني كارلوس.. الذي أدين له بحياتي الآن و لذلك بقيت معه، مع أنه لص لكنه أفضل منك، أتعلم لماذا؟
لأنه ليس جبانا يختبيء في الغابات بين الأشجار و يعد بوعود و لا يفيها،
لقد كنت أعتبرك من عائلتي، لكنك ... لكنك "

ابتسم آريون ليهز رأسه و يتنهد بأسى مجيبا:
" ليتك تعرف المتاعب التي تعرضت لها...
حسنا لا بأس، ستذهب معي الآن و تترك عصابة اللصوص أولئك"

رفع ديو حاجبيه مستنكرا ليجيبه:
" و لماذا سأفعل ذلك؟ أنت صديق أبي، لا صديقي،
ابتعد عني فقط"

استدار ديو مبتعدا ليجذبه آريون بشدة من معطفه و يسحبه نحوه،
التفت ديو نحوه برعب ليضيف آريون بملامح قاسية:
" إسمعني جيدا، سورانديو.
ستذهب معي وفقا لما أملاه علي والدك، لا حبا فيك،
حتى لو كنت تكرهني فأنا قطعت وعدا لأبيك و لا أستطيع أن أخلفه،
إذا، لو أخبرتك بأن ذلك الجندي الذي أنقذك حي، و أخذتك له، ستذهب معي؟
و لا تخف؛ لن نعيش في الغابة،
سأستأذن إيلين للرحيل"

اتسعت عينا ديو ليصمت لبرهة ثم يوميء بصمت،
مد آريون كفه ليضيف:
" أعطني يدك، و عدني وعد رجل لرجل"

تردد ديو قبل أن يمسك بكف آريون و يوميء.

عادت سارة لمنزل إيلين برفقة آريون و ديو، لتتثائب و تجلس قرب سوير،
التفت سوير نحو الفتى الأكبر عمرا بدهشة و خوف ليبتعد و يقترب من سارة متسائلا بقلق:
" أين ذهبتي مع آريون يا سارة؟ و لماذا جاء معكم هذا اللص المشرد؟!"

شدت سارة قامتها لتجيبه:
" كانت ن
زهة جميلة! آكشن!"

"يمكنني سماعك يا صاحب القبعة"

التفت سوير ببطء للخلف برعب ليحدق للفتى الذي يرمقه بابتسامة ليبتعد بسرعة و يخاطبه:
" إن كنت تريد القتال فأنا لست خائفا منك،
و السيد آريون هنا و سيقتلك لو آذيتنا"

ضحك آريون ليجلس و يوميء لسوير ليجلس قربه و هو يحدق نحو ديو بشك و خوف،
ليربت آريون على كتف الصغير و يخاطبه:
" عزيزي سوير، أنتم لستم الأطفال البشريين الوحيدين الذين زاروا الغابة بحثا عن إيلين،
قبل ست سنوات، جاء هذا الفتى للغابة ليبحث عن إيلين؛ لكي تعطيه علاجا يشفي والدته"

التفت سوير نحو الفتى ليقول:
" إذا... لهذا كان يعرف عن غابة إيلين... و عن الوحوش فيها"

اتسعت ابتسامة آريون ليضيف بنشوة:
" في ذلك الوقت، كنت قد جئت للغابة للتو،
محملا بحقد كبير نحو البشر لأنهم آذوني كثيرا و حاولوا قتلي مرات لا تحصى، كنت قد قررت أستعمال سحري للقضاء عليهم، لتدمير منازلهم، قتلهم.
نزحت للغابة بعد أن أحرقت قرية كاملة و طاردني سكانها بالأسلحة"

انسحب سوير ببطء من قرب الجني الذي أمسكه من ياقة قميصه ليثبته في كرسيه ليضحك طويلا و يمسح دموعه، ثم يضيف:
" في ذلك الوقت ساقته قدماه المشؤومتان لي،
و كنت أريد قتله، بل بالفعل كنت على وشك قتله لولا أن والده قد أوقفني،
كان والده ساحرا لا يستهان به، و كنت مصابا بجروح عديدة لذلك انسحبت"

تنهد آريون ليربت على رأس سوير و يكمل:
" كان دريموند قويا، كنت قد استهنت به لذلك كال لي أذى جسيما،
أذكر أنني ذهبت في الطريق بصعوبة لأجد قرية الأقزام، خرج قائدهم زاشر لمواجهتي و كنت على وشك قتله لكن إيلين أوقفتني"

لمعت عينا سارة بحماس لتقاطعه:
" واو! إيلين تقاتل أيضا؟! هل ضربتك؟"'

هز رأسه ليرفع كتفيه و يجيب:
" هي قطعا قوية، إذا كيف ستحرس هذه الغابة الشاسعة الواسعة وحدها؟
و بلى، لقد أصابتني بسهم من قوسها السحري، لن تتمني أن تتعرضي له يوما، صدقيني... كدت أن أموت..

بعدها وجدت نفسي في هذا المنزل المتواضع،
لقد عالجت جروحي، لكنها كانت قد قيدتني،
تحدثت معي طويلا... ثم اقتنعت بعدها بأن قتلي للبشر لن يفيدني بشيء،
فتركت ذلك الطريق و وجدت أن الغابة هي المكان الأنسب لي،
عشت هنا كجني طيب، و شيئا فشيئا صرت نائب إيلين و محل ثقتها.
و كذلك جاء دريموند مرة أخرى للقضاء علي،
لم أقاتله و أخبرته بأنني لا أرغب بذلك،
الرجل اقتنع بأنني تغيرت و صار يزورني من حين لحين، و صار صديقا عزيزا"

"أنت رائع يا آريون! أنا أحب الأشرار السابقين!"

رمقها سوير باستنكار لتسند ذقنها لكفها لتسأله:
" إذا، لهذا يخاف منك ديو.. لأنك كنت شريرا"

أشاح ديو وجهه بعيدا لتضحك سارة و تضيف متسائلة:
" لكن أين كنت تعيش قبل أن تأتي للغابة؟ و لماذا كان البشر يريدون قتلك ؟"

أبعد آريون يده عن كتف سوير ليسند ظهره للكرسي و يضع سبابته على شفتيه،
زمت سارة شفتيها لتسأله بتحد:
" إذا لن تخبرني؟ ألسنا أصدقاء؟"

هز آريون رأسه ليجيبها بصوت هاديء:
" لا أريد تذكر ذلك، هذا ما في الأمر.
الأمر سيان لأن أطلب منك إخباري بكل كذبة قلتها، بكل مرة فعلت فيها شيئا سيئا، تلك أشياء لا نحب مشاركتها بالطبع.
أنا لم أخبر أي شخص هنا بأي شيء عني، عدا إيلين.
حتى دريموند، كالان، ألفين و إيلدون لا يعرفون عني كل شيء، تلك التفاصيل السوداء القديمة...
أعتذر لكنني أفضل عدم مشاركتها"

دخلت لينيريا برفقة هوكي بينما روزي و توت و بندق و بقية الجنيات يحلقون قربهم ليركضوا للعلية،
لتتبعهم إيلين داخل المنزل و تحيي الجميع بابتسامة،
ثم التفتت لديو مخاطبة إياه:
" حللت أهلا و نزلت سهلا، سورانديو.
مر وقت طويل، ست سنوات على آخر زيارة لك"

اغرورقت عينا الفتى بالدموع ليسرع و يعانق الجنية،
ابتسمت إيلين لتربت على رأسه برفق و تضيف:
" أرى أنك قد كبرت، صرت رجلا"

" و صبغ شعره بلون غريب كفتيان العاصمة، و تغير ذوقه في الملابس"

أضاف آريون بسخرية لترمقه إيلين بطرف عينها ثم تضيف:
" فقدك عظيم. لكن يجب عليك دائما أن تسعى للأفضل، أن تكون قويا مهما جرى.
ما كان والدك ليكون سعيدا لو علم أنك ستصير لصا في طرقات العاصمة بدلا من أن تكون فارسا قويا مثله"

أومأ ديو بصمت ليمسح دموعه و يضيف:
" سعيد جدا برؤيتك مجددا، كما أنت، لم تتغيري و لم يتغير قلبك الطيب، منذ ست سنوات، حين كان كل شيء بخير...
سعيد برؤية شخص غال يذكرني بتلك الذكريات و الأيام الجميلة"

ابتسمت إيلين لتربت على كتفه و تضيف:
" على حسب نظرتك أنت تصير أيامك جميلة أو تعيسة.
أن تتفائل، تبذل جهدك و تسعى للخير،
حينها لن تشعر بالحزن أبدا و سترى الطرق تفتح أمامك و ستصير أيامك جميلة.
عليك أن تؤمن، و أن تستمر بالإيمان مهما حدث،
ألا تفقد الأمل و تسعى دائما لجعل نفسك أفضل."

ثم أمسكت بأناملها الرقيقة كفه الأيمن لتضعه على جهة قلبه و تضيف بوجه بشوش:
" أنا مؤمنة بأن هذا القلب يحمل الكثير من الخير، الحب و الطيبة، سوف تكون شخصا رائعا، ديو الصغير"

حل الظلام ليطغى على كل شيء و
يبتلعه،
عدا عن أضواء النجوم الساطعة المنتثرة في خيط رفيع في السماء، و جنيات الليل المضيئات.

غادر ديو مع آريون للعاصمة لتوديع كارلوس و رفاقه لآخر مرة، بينما
ذهب الصغار للعلية حيث الأسرة للنوم،
أسرعت لينيريا لتحجز السرير قرب النافذة بينما تبعها هوكي ليقفز عليه و يرقد في طرفه،
أيقظ سوير سارة ليسحبها للسرير كذلك في الأعلى،
كانت الأسرة لينة من ريش النعام فتغطى الجميع لتقترب إيلين و تجلس قرب الأطفال الثلاثة و القط،
ابتسمت لينيريا لتهتف:
" أغنية ما قبل النوم!"

هتف الجميع بالمثل لتبتسم إيلين و تجيب:
" حسنا، سأرى أغنية جميلة"

ربتت الجنية الجميلة على رؤوس الصغار لتغني بصوتها الآسر:
" سأنام، سأنام، إنتظريني يا أحلام.
حتى أغمض عيني، و أغفو بسلام.
سأطير، سأطير، هيا طيري يا عصافير،
لسريري الصغير.
مهما فينا سافرت المسافات، و مهما طالت الساعات،
أبحث عنك فأجدك في عيني، حين أغلقها بالذات.
سأنام، سأنام، و أجدك في المنام، مهما طالت الأيام"

عند نهاية التهويدة، كان الصغار قد ذهبوا لعالم الأحلام مبتسمين،
انحنت إيلين لتقبلهم على جباههم ثم تغطيهم جيدا لتعود لغرفة الإستقبال،
قفز السيد أصفر من كتفها ليسألها:
" سنزور السيد كارتر غدا، أليس كذلك؟"

أومأت إيلين لتضيف:
" سيكون يوم الغد حافلا،
يجب علي الذهاب بنفسي لأعيد الصغار للمنزل،
لكن قبل ذلك يجب أن نسلم هذه الرسالة للسيدة آنا لكي لا ينفطر قلبها من الحزن"

لوحت إيلين في الهواء لتظهر أدوات الكتابة و تستقر على الطاولة،
حملت إيلين القلم لتكتب على الورقة ذات الحواف الذهبية ثم تغلفها و تربطها بشريط حريري صغير على ظهر الكتكوت و تخاطبه:
" فلتوصلها بسرعة و تعود"

ركض الكتكوت بسرعة خارج المنزل لتفرقع إيلين أصابعها و تنطفيء أضواء الثريا .

استيقظت لينيريا في منتصف الليل حيث ضوء القمر ينير الأرض بوهج فضي،
فركت عينيها الناعستين لتنظر للأضواء الصغيرة عبر النافذة،
حيث جنيات صغيرات يرتدين فساتين ذهبية مضيئة يرقصن في دائرة كبيرة،
و يغنين بأصوات عذبة للقمر المنير.
🌸
الفصل الخامس عشر: جندي مجهول
أولئك الأبطال المجهولون الذين يضحون بكل شيء،
بأرواحهم، دمائهم و سعادتهم و يبذلون نفوسهم سخية في سبيل الدفاع عن الأوطان و الذود عن كل ما هو جميل،
قلة من تعرفهم، تقدرهم و تعطيهم حقهم،
عند نهاية المعارك و الحروب، يعود السكان و الحكام بأمان و سعادة لحيواتهم الطبيعية، بينما الجنود الأشاوس يكونون في السماء، أو مصابين بجروح جسدية و نفسية لا تلتئم بسهولة.

كان ذلك الجندي أحد الذين عانوا الكثير،
و لم ينالوا غير النسيان و الآلام.

كان الصغار الثلاثة يتبعون آريون و ديو بصمت و ترقب،
بعد أن توسلت سارة لآريون لمرافقتهم و رؤية الشخص الذي أنقذ ديو،
في قرية صغيرة في مدينة ناتاريس، المقاطعة الغربية.

التفت آريون للصغار الثلاثة ليضيف:
" إنه يعمل في مدرسة قريبة من هنا، سنذهب له بعد نهاية الدوام أنا و ديو،
أنتم يمكنكم التجول في المكان خلال ذلك الوقت قرب المدرسة، لكن لا تبتعدوا لنعود للغابة بسرعة، حسنا؟"

أومأ الصغار ليذهبوا و يجلسوا تحت إحدى الأشجار بينما سحب آريون ديو ليضيف:
" انظر إلى نفسك، تبدو كالمتسول!
ما هذا المعطف الرديء!"

زم ديو شفتيه ليرمق آريون ببرود ليضيف بينما يسحب منه المعطف الكبير:
" هيا، أعطني هذا المعطف، قميصك الأحمر جيد"

نزع ديو المعطف الكبير ليرميه على وجه آريون،
أبعد آريون المعطف عن وجهه ليدخله في حقيبته و يرمق قميص ديو الأحمر الصارخ بلا أكمام ليضحك طويلا بشماتة،
هز ديو رأسه ليضيف:
" توقف عن الضحك كالمجنون أو اعطني معطفي!"

أخذ آريون أنفاسه ليجيبه:
" أعتذر، قميصك جميل.. يجعلك تبدو كالمشر.. الأطفال، الأطفال"

عدل آريون معطفه ليغطي به رأسه جيدا و يسير مع ديو ليدخلا المدرسة،
كانت مبانيها متواضعة أرضية بلا طابق علوي،
يحدها جدار كبير عليه لافتة كبيرة تحمل اسمها،
مدرسة ناتاريس الإبتدائية.
كان الوقت يلوح للظهيرة و الطلاب الصغار يخرجون عبر البوابة المعدنية بسعادة و بعضهم يركض،
تنهدت سارة و هي ترمقهم لتقول:
" أنا لا أصدق هذا لكنني اشتقت للمدرسة،
تبقى وقت قليل و تفتح مدارسنا نحن أيضا"

أومأ سوير و أضاف:
" أنا كذلك، اشتقت للحصص و الواجبات و المذاكرة و أستاذ جيمس و الآنسة زونا"

نهضت لينيريا لتضيف:
" أليست هذه هي موطن آدم و مونيك؟ "

أومأ سوير و هو يتأمل المدينة الخضراء لتضيف سارة:
" بلى، إنها جميلة حقا، تذكرني بقريتنا"

ركضت لينيريا نحو المدرسة ليلحق بها سوير و سارة بينما يخاطبها سوير:
" لينيريا! أخبرنا السيد آريون بأننا سنمكث هنا و لن نتحرك!"

ركضت لينيريا للفسحة لتشير لشجرة كبيرة و تضيف:
" تلك الشجرة مثل الشجرة قرب نافذة غرفتنا"

اقترب سوير و سارة للشجرة ليتفحصاها،
التفتت سارة لتشاهد آريون يتحدث مع أحد المعلمين.

أشارت سارة نحوه لتلفت سوير و تقول:
" أنظر، إلى ذلك المعلم الذي يتحدثون معه،
يبدو كالقراصنة!"

ضحكت سارة بخفوت ليلتفت سوير و يحدق نحو الرجل الطويل الذي ينصت لآريون باهتمام،
مرتديا طقما بني اللون مع قميص مقلم، شعر أسود حالك و حذاء بنفس اللون و قبعة سوداء،
انتبه سوير لعصابة العين السوداء التي يضعها على عينه اليسرى،
له لحية وافرة و شارب خفيف.

تنهد سوير بأسى ليضرب سارة على رأسها و يخاطبها:
" لا يجب عليك أن تحكمي على الناس من شكلهم يا سارة، و لا أن تسخري منهم، هو بالتأكيد لا يريد أن يفقد عينه "

ركضت لينيريا خلف فراشة ملونة لتراقبها و هي تبتعد، ثم ذهبت لتمسك فتاة لتتحدث معها،
بينما أصغت سارة سمعها لما يقوله الرجل.

أضاف آريون بينما ربت على كتف ديو:
" هذا الصغير يريد مقابلتك منذ وقت طويل.
في وقت الحرب، أخبرني بأنك قد أنقذته من الموت،
لكنك تأذيت بسببه، هو يريد أن يعتذر"

هز الرجل رأسه بتفهم ليجيب آريون بهدوء:
" أنت مصيب في حديثك،
قبل خمس سنوات كنت جنديا، و قاتلت في الحرب.
لكن أعتذر منك يا سيدي، أنا لا أتذكر أي شيء،
ذهني خال تماما من أي شيء بسبب إصابة تعرضت لها،
لكن، سأكون ممتنا لسماع القصة كاملة من الفتى نفسه"

أومأ آريون ليشير الرجل لديو ليسير بقربه و يجلسا على مقعد خشبي قريب،
أخذ ديو نفسا عميقا ليقبض يديه بتوتر، ابتسم الرجل ليربت على كتف الفتى و يخاطبه:
" لا بأس يا صغيري، ما كان قد كان و أنا بالتأكيد لن أكون غاضبا منك أو ما شابه، كل ذلك الخراب قد انتهى"

أومأ ديو ليتشجع و يقول:
" قبل خمس سنوات، لقد تدمر منزلي في قصف خلال الحرب،
أنا... مستخدم سحر، منذ صغري كنت أجيد إلقاء التعويذات و استخدامها، لكن في ذلك الوقت خرجت قواي عن السيطرة لسبب ما، كنت خائفا جدا لأن الجميع قد ماتوا...
كل من اقترب مني قد مات، لذلك اجتمع الجنود حولي لقتلي، نظرا لكوني تهديدا، عدوا و ساحرا شريرا.

ابتسم الصغير ليضيف:
" لكن.. أنت وقفت أمامهم و أبعدتهم عني، أذكر أنك ضمدت جروحي، و أخبرتني أنني سأكون بخير.
و بأن أبي رجل عظيم، و قد بذل ما بوسعه لحماية الجميع.
في ذلك الوقت أطلق أحدهم النار نحوي، لكنك قمت بحمايتي، و تلقيت الرصاصة القا
تلة بدلا عني."

شد ديو قبضته على المقعد ليخفي ارتجاف يديه و أكمل:
" لقد تأذيت بشدة، الرصاصة تشظت لتنتشر أجزاؤها فيك،
كنت تنزف من كل مكان، و كنت خائفا و مرعوبا،
كنت أريد إنقاذك و إلقاء تعويذة الشفاء عليك،
لكن يدك اليسرى تفحمت،
ثم اختفيت "

صمت ديو بخوف و ترقب ليفكر الرجل طويلا قبل سؤاله:
" و من يكون والدك؟"

" دريموند ألابايوس، حارس النجوم"

رفع الرجل حاجبيه عجبا ليضيف:
" لقد سمعت به، و ببطولاته و مجهوداته للملكة،
متأكد جدا من كونه رجلا عظيما"

ثم وضع كفيه على كتفي الفتى ليخاطبه:
" مهما يكن من شيء، كنت أؤدي عملي وواجبي نحو وطني، و ما يمليه علي ضميري بإنقاذ طفل بريء.
أما عن الحوادث فهي أقدار من الله، لا اعتراض لنا فيها.
بحسب ما أخبرني به ذلك الرجل، أنت قمت بنقلي لهذه المنطقة التي كانت آمنة في ذلك الوقت،
و بفضل ذلك أنا حي الآن،
لا شيء تعتذر منه يا ولدي، بل أنا من أشكرك"

رفع ديو رأسه بدهشة ليقول بتعلثم:
" لكن... لكن أنت لا تذكر شيئا الآن ،
و فقدت عينك، و تأذيت بسببي..
و لست غاضبا، أو حزينا؟"

تنهد الرجل لينظر للأعلى و يضيف:
" اسمعني جيدا، أنا رجل مؤمن،
و أعرف أن كل ما يحدث معنا هو من أقدار الله،
و أنه يجب أن نرضى بها و نصبر.
كل شيء لحكمة يعلمها القدير، و حزني أو غضبي لن يغير أي شيء و لن يعيد لي شيئا، و أنا على قيد الحياة، بينما آلاف الجنود ماتوا،
لذا لما أحمل الضغينة؟"

ترقرقت عينا ديو بالدموع ليربت له الجندي على كتفه و يضيف:
" أنا أسامحك، أنت لم تكن تقصد، و ذلك ليس ذنبك.
أقدر بحثك عني لطلب الصفح،
أنت ولد طيب، يمكنك الذهاب"

نهض ديو ليشد على يد الجندي بامتنان ليسأله:
" أعدك بأن أكون شخصا جيدا و قويا، مثل أبي.
اسمي هو سورانديو، هل لي معرفة اسمك سيدي؟"

ابتسم الرجل ليجيب:
" ادعى راي، راي كارتر"

عاد ديو لآريون ليبتسم و يمسح دموعه قائلا:
" شكرا لك آريون"

هز آريون رأسه ليضيف:
" لنذهب"

سار آريون لينهض الصغار من تحت الشجرة و يتبعوه،
ودعت لينيريا صديقتها الجديدة لتهرع لهم و تضيف بسعادة:
" أريد إلقاء التحية على الأستاذ راي!
أخبرتني آميلا أنه طيب و ذكي و يحبونه كثيرا!"

ركضت لينيريا عائدة للداخل ليتبعها الجميع،
توقفت لينيريا لتمسك ببنطال الرجل و تخاطبه بابتسامة:
" أنت الأستاذ راي؟ أنا لينيريا!
أخبرتني آميلا أنك تدرس مادة التاريخ، أنا أحب التاريخ!
جدتي دائما تحكي لي حكايات عن تاريخ الأشياء القديمة و تاريخ قريتنا و مقاطعتنا، و تاريخ الغابة،
و قصصها ممتعة! عندما أكبر أريد أن أصبح معلمة تاريخ أيضا!
هل يمكنني المجيء هنا برفقة جدتي لكي نحضر معا بعض الدروس معك؟"

اقترب آريون معتذرا بينما كتمت سارة ضحكتها و جذب سوير الصغيرة لتوبيخها،
ضحك المعلم ليجثو على الأرض ليربت على رأس الصغيرة و يجيب:
" بلى، أنا المعلم راي.
تحبين التاريخ إذا! إنها مادة ممتعة حقا، و مليئة بالقصص و العبر و المعلومات القيمة.
يسعدني جدا استضافتك مع جدتك، لينيريا"

صمت الرجل لوهلة لتتغير ملامحه و ينقبض وجهه بألم، لينهض معتذرا ليعود للداخل،
اقتربت سارة من سوير لتهمس بتوتر:
" سوير، ملامحه..الملابس و القبعة... ألا تذكرك بشخص ما؟"

أومأ سوير ليسأل آريون:
" ما هو اسم المعلم؟"

" راي كارتر"

اتسعت أعين التوأم لينظرا للجني بعدم تصديق،
رفع آريون حاجبيه ليسألهما باستغراب:
" ماذا هناك؟ و كأنني صرت شبح الموت"

هز سوير رأسه بعدم تصديق ليتمتم:
" راي كارتر... إنه اسم أبينا المفقود منذ خمس سنوات"

"هل أنت جاد؟!" 
أضاف آريون بتعجب لتلتفت سارة له و تضيف برجاء:
" إنه هو! نحن نتذكره، نفس الملامح، و الصوت، الطول و ذوق الملابس، و القبعة!
إنها مثل قبعة سوير التي كانت لأبي!"

أمسكت سارة بيد الجني لتترجاه:
" آريون، أنت جني قوي.
أرجوك أشف أبي، اجعل ذاكرته تعود و يتذكرنا،
أرجوك!"

اقترب سوير كذلك ليمسك بديو من قميصه بعنف و يخاطبه بحقد:
" أنت... كل هذا بسببك!
لقد آذيت أبي! انظر إليه الآن، لولا أنه ساعدك لما تعرض لكل هذا و لكنا نعيش معه الآن،
بدلا من أن نكون بلا أب لخمس سنوات..
أنت شرير! أتمنى لو أنك مت في ذلك الوقت! "

خفض الفتى الأكبر بصره ليشيح وجهه بأسى ليخفي عبراته، بينما اقتربت لينيريا لتشد قميص سوير و تخاطبه:
" سوير، الولد يبكي، لا تكن شريرا!"

التفت سوير للصغيرة بوجه جامد ليضيف:
" ألم تكن أمي تبكي كذلك عندما لم يعد أبي؟
ألم نبكي لأن أصدقائنا لديهم آباء و نحن ليس لدينا؟"

أومأ ديو ليخاطب سوير بصوت متهدج:
" صدقني..
أنا أيضا تمنيت الموت عدة مرات.
لقد أردت أن أكفر عن خطئي، أنا لم أكن أقصد، صدقا.
هل تعتقد أنني كنت سعيدا برؤية الناس يموتون بسببي؟
قطعا لا! كنت خائفا و مرعوبا، بسبب كارلوس فقط ما زلت حيا اليوم و لم أفقد عقلي.

أنا ... آسف، ماذا أفعل أكثر لكي أكفر عن خطئي؟
هل تود قتلي؟ يمكنك ذلك! لو كان ذلك يشفي غليلك، سأكون سعيدا و مرتاحا حينها، أرجوك اقتلني
!"

علت الدهشة ملامح سوير عندما شاهد الدموع تتساقط من عيني الفتى الأكبر، ليفلته بسرعة و يتراجع للوراء،
بينما يراقبه يسير بصمت ليجلس تحت الشجرة و يخفي وجهه بين ركبتيه،
اقترب آريون ليربت على كتف سوير و يخاطبه:
" خلال الحرب، ديو أيضا فقد والده العزيز،
لكنه لن يعود أبدا.
كان له أختان صغيرتان، توفيتا كذلك عندما انفجر منزلهم،
توفيت والدته في العام الذي يسبقه، كانت مريضة.
هو أيضا عاش بلا والد لخمس سنوات،
و بلا منزل كذلك، لم يبحث عنه أحد أو ساعده،
بل بالعكس كان يعتبر من الذين يجب قتلهم.
و اضطر للعيش كلص في الشوارع لكسب لقمته، ترك الدراسة، و كل شيء.

سوير، الغفران هو أعظم هدية من الرب.
و قليلون من يطلبونه و يسعون له، وسع قلبك"

أومأ سوير بينما زم شفتيه بندم ليسير ببطء ناحية الفتى الأكبر و يربت له على رأسه،
رفع ديو رأسه ليجلس سوير و يعانقه قائلا:
" أنا آسف، أنت أيضا عانيت مثلنا، و أكثر.
و أنت أيضا لم تقصد، أنا آسف جدا "

ابتسم الفتى بأسى ليخاطب سوير:
" كم صرت مثيرا للشفقة! 
ابتعد يا سوير، ابتعد فقط، لا تشفق علي و لا تعتذر"

تهند سوير ليخطو للخلف و يقترب من سارة،

اقترب آريون ليضيف:
" لنعد للغابة، يجب أن نخبر إيلين، لا بد أن يكون لديها ترياق أو دواء أو شيء من هذا القبيل.
أنا لن أستطيع فعل شيء له"

أومأ الصغار بحزن ليتبعوا آريون في الطريق نحو حدود الغابة.
توقف سوير ليضيف:
" آريون... هل يمكنك الذهاب و العودة وحدك؟"

التفت آريون باستغراب ليضيف سوير بينما يشير لسارة و لينيريا:
" نحن لدينا فريق تحري، سوف نجمع المعلومات عنه أولا و نعرف متى أتى و من ساعده،
و نتحدث معه، إلى أن تحضر الترياق"

عقد آريون ذراعيه ليجيبه بشك:
" و كيف لي أن أطمئن و أذهب وحدي و أنتم وحدكم في مكان غريب؟ ماذا لو تعرض لكم شيء أو أصابكم مكروه؟ ماذا سأقول لإيلين؟"

اقتربت لينيريا لتمسك بيد ديو و تضيف:
" ديو ولد لطيف و قوي، سوف يحمينا.
أليس كذلك؟"

حدقت لينيريا نحو الفتى بعينين مترجيتين ليتنهد و يوميء لآريون،
ابتسم الجني ليضيف:
" حسنا، سأحاول الذهاب و القدوم بسرعة"

توارى آريون خلف شجرة ليفرقع أصبعه و يختفي،
بينما ذهب ديو ليتسلق الشجرة العالية يخفة ليجلس على أعلى فرع و يراقب الصغار الثلاثة بينما يفكر بعمق فيم سيفعله.

سار الإخوة الثلاثة لصاحب متجر الطعام لتقترب سارة و تخاطبه بابتسامة:
" مرحبا أيها العم! كنا نريد سؤالك عن المعلم راي،
متى أتى لهذا المكان؟ "

و اقتربت لينيريا لتضيف:
" لأننا نرى أنه يشبه أبي كثيرا، و أبي ليس معنا،
ربما يكون هو" 

التفت التوأم نحو لينيريا ليضحك المسن و يقول:
" إذا تسألون عن راي؟ لا أدري لو كان له عائلة أم لا، لكن سأخبركم بما أعرفه"

أومأ صاحب المحل العجوز بابتسامة ليجيب الصغار:
" راي... أعتقد أنه جاء للمنطقة قبل خمس سنوات،
أذكر ذلك اليوم كما لو كان الأمس...
بعد انتهاء الحرب التي عانينا ويلاتها كتب الله لنا النجاة،
رممنا منازلنا و عدنا للحياة،
في ذلك الوقت و في ذات مساء، وجدنا ذلك الجندي المصاب بشدة على قارعة الطريق أمام منزل السيدة ياسمينة،
لقد كان ممزقا، فحسبه الجميع ميتا.
لحسن حظه أن السيدة ياسمينة رفضت ذلك و بادرت لمداواته،
استمرت بمداواته لأسابيع طويلة إلى أن تحسن،
بعد استفاقته اجتمعنا حوله، كان لا يذكر شيئا و لا حتى اسمه..
عرفنا اسمه من منديل مطرز كان في جيب قميصه من الداخل، لم نعرف أصله و من أين أتى،
لكن أشفقنا على حاله كونه فقد عينه اليسرى و ذراعه اليسرى كذلك فقررنا إبقاءه معنا.
الغريب في الأمر أنه يتذكر الكثير من المعلومات، خطه جميل و يكتب بسهولة و يجيد عدة لغات،
فقررت السيدة ياسمين أن تعرض عليه العمل في مدرسة القرية لخمس سنوات،
ووافق هو بكل سرور ليجزي السيدة ياسمينة على إنقاذها له"

خرج الصغار ملوحين للبائع ليقول سوير:
" لدي فكرة، لماذا لا نذهب و نخبره أننا أبناؤه؟
و نريه دفتري من العام السابق الذي يحمل اسمي الكامل ليصدق؟"

أومأت سارة لتقول لينيريا:
" سأذهب أولا!"

ركضت لينيريا ليتبعها أخواها لساحة المدرسة الواسعة لتلاحظ المعلم جالسا على المقعد الخشبي في الحديقة مسندا رأسه لكفه مفكرا،
ركضت لينيريا لتقفز قربه و تصرخ:
" أبي!"

التفت راي متفاجئا ليصل سوير و سارة و هما يلهثان،
التفت راي نحو التوأم ليضيف سوير يصوت متقطع:
" ألا تتذكرنا.. يا.. أبي؟"

اتسعت عينا راي عجبا ليسأل سوير باستنكار:
" أبي؟! أنا لست والدكم أيها الولد!
ما الذي تقولونه؟ "

هزت سارة رأسها لتضيف:
" أبونا اسمه راي ماكوي كارتر، كان يعيش معنا في المقاطعة الجنوبية في مدينة آركس، كان يعمل معلما في المدرسة، و يمتلك مطعما مشتركا مع صديقه توماس.
لكنه ذهب للحرب قبل خمس سنوات و لم يعد"

خلع سوير قبعته السوداء ليقربها من الرجل و يقول مشيرا لباطنها:
" انظر، والدتي طرزت لي اسمي في طرف القبعة،
هذه القبعة كانت لك"

لاحظ راي تطريزا باسم سوير راي كارتر،
ك
ان اسم سوير بلون مختلف و بقية الاسم بلون موحد، بيد أن اسم سوير كان يبدو أحدث خياطة من الأخير،
بحث راي في جيب قميصه بيد مرتعشة ليخرج منديلا قماشيا مهترئا مطرزا فيه اسمه، ليقربه من قبعة سوير و يقارن الخط، كان نفس الخط و نفس الخيط.

رمش راي بذهول ليتأمل الصغاى الثلاثة و يتمتم باندهاش:
" أنتم... أبنائي؟! لكن.. لماذا لا أتذكركم؟!"

وضع راي يده على رأسه لتجيبه لينيريا:
" أنا لم أراك إلا في الصورة المعلقة في الحائط،
أمي أخبرتني أنني كنت لم أولد بعد عندما ذهبت أنت،
أنا سعيدة برؤيتك! هل يمكنني معانقتك؟"

رفع راي رأسه لتلتصق الصغيرة به كالعلقة و هي تضحك بخفوت و حماس، ليربت على شعرها الذهبي بصمت و يلتفت مخاطبا سوير:
" ما أسماؤكم؟"
🌸
الفصل السادس عشر: أحلام و أماني
ننسى بسبب الآلام الشديدة التي معها لا يسعنا التفكير بصورة متزنة، ننسى الآلام لكي نستمر في العيش،
لكي نسير قدما و نمضي، كان كارتر متأكدا أن ما فقده من ذكريات لحكمة إلهية، لكي ينسى كل آلام الحرب.
كان يبتسم من حين لحين و هو يستمع بحبور و حنين لما يقصه عليه الأطفال،
المنزل القرميدي ذو الطابق الواحد و الطلاء الأبيض و الأحمر، حديقة الفريز الصغيرة التي زرعتها آنا،
آنا و تفانيها في عملها و اهتمامها بهم، الشاحنة الحمراء الصغيرة التي يقودها آدم،
الجدة جورجينا و حكاياها الجميلة، مخبز العم آنطون في حي الياسمين،
البحيرة الصغيرة و المدرسة التي تقع قرب البئر القديمة،
نزهاته مع سوير و سارة للمرج القريب حيث يراقبون الأبقار و يعزف لهم بالجيتارة ليغنيا معه.
لسبب ما، شعر راي بالحنين لكل تلك القصص،
تنهد ليرفع رأسه للسماء بنظرة متأملة و يضيف:
" ذلك يبدو كالوطن بالنسبة لي"

ابتسم الصغار بحماس ليضيف:
" لكن لا يمكنني ترك هذا المكان ببساطة،
أنا أيضا أعتبره كالوطن بالنسبة لي، الجميع هنا طيب و مسالم، و لهم علي أفضال كثيرة، مكثت معهم لسنوات لذلك قرار كهذا سيكون صعبا.
و لو كنتم محقين... هل ستسامحني والدتكم بعد كل تلك الآلام التي قاستها بسببي؟
كانت تظنني ميتا بينما كنت حيا أرزق،
و أعود فجأة، أعورا معدما بلا مال لا يتذكرها حتى"

اختفت ابتسامات الصغار ليأتي صوت حنون رقيق مجيبا له:
" بالتأكيد ستنتظرك، و ستسامح غيابك بمجرد رؤيتك.
المظهر لا يهم ما دامت روحك كما هي، و قلبك كذلك."

التفت الجميع لمصدر الصوت ليشاهدوا جنيتهم الجميلة تقف على مقربة منهم،
بطلتها الساحرة و فستانها الوردي المختال على الأرض،
بينما صوص أصفر صغير يقف على كتفها اللؤلؤي بقبعته الصوفية الحمراء بكرة خضراء صغيرة.

فتح راي فاه دهشة ليحدق بإيلين بعدم تصديق،
ليقفز الصغار ليعانقوها و يهتفوا بسعادة.
اجتمع كثير من السكان لرؤية الأميرة الفاتنة في ساحة المدرسة ليتجمهر عدد كبير،
ابتسمت إيلين لترفع يدها محيية الجميع،
اقتربت فتاة صغيرة لتلمس فستان الجنية الزاهي و تخاطبها:
" أنت جميلة جدا أيتها الآنسة! هل أنت أميرة؟"

ابتسمت إيلين لتجيبها:
" مجرد ضيفة، جئت لرؤية المعلم كارتر"

ثم التفتت مخاطبه راي:
" أود التحدث معك قليلا، سيد كارتر"

أومأ كارتر ليقف بسرعة و يشير لها لتتبعه لمنزله،
ركض الصغار كذلك خلفهم للمنزل الصغير في نهاية الشارع.
توقف راي ليبحث في جيبه عن المفاتيح لترفع إيلين يمناها لتنظر نحو الشمس و السماء،
ابتسمت الجنية لتخاطب الصوص الصغير:
" إنها أول مرة نخرج فيها من الغابة منذ سنوات طويلة،
نسيم الهواء مختلف هنا، و الشمس ساطعة أكثر"

أومأ الصوص لتهب نسمة هواء لطيفة لتغمض إيلين عينيها باستمتاع بينما النسيم يداعب خصلات شعرها المتموجة الذهبية،
اقترب أحد الشبان راكضا ليقترب من الجنية و ينحني باحترام،
بحزام جلدي فاخر أسود اللون كشعره و ملابس زرقاء،
رفع رأسه ليحدق بالجنية باندهاش و إعجاب ليخاطبها:
" أيتها الآنسة النبيلة، هل لي الشرف بمعرفة اسمك؟
أنا سيمون دارون، ضابط في الشرطة و مسؤول عن حماية القرية"

رمقته إيلين بين رموشها الكثيفة ليحدق بعينيها السحريتين الزرقاوتين طويلا،
اقترب كارتر ليربت على كتف الشاب و يخاطبه:
" سيدي الشاب، من غير اللائق الإقتراب من ضيوف الآخرين هكذا"

دخلت إيلين ليتبعها الصغار بينما تعالت قهقهات سارة التي لم تمسك نفسها من الضحك،
ليدخل راي و يغلق الباب بينما انتبه الشاب لنفسه ليبتعد ببطء بينما نظرات الناس تلاحقه و بعض الضحكات،
بيد أنه كان في عالم آخر ليقترب من صديقه الجالس تحت الشجرة و يخاطبه:
" لم أر جمالا و إباء كهذا في حياتي.. لقد وقعت في حبها و انتهى الأمر، يجب أن أعرف من تكون و أين تعيش، و كل شيء عنها"

رفع صديقه كتفيه بقلة حيلة ليتنهد قائلا:
" إنها رائعة نعم، لكن ألا تفكر أنك كنت تبدو كالأحمق؟
من غير اللائق الإقتراب من فتاة لا تعرفها بهذه الطريقة، ستعتبرك أحد المتطفلين و لن تعيرك انتباها حتى، علاوة على ذلك ستصير أضحوكة الحي لعدة أيام"

زم سيمون شفتيه ليقول:
" لا بأس، سأتبعها لأعرف منزلها و أتعرف عليها بطريقة لائقة"

جلست إيلين بهدوء على المقعد الخشبي القاسي ليقترب كارتر و يسحب مقعدا ليجلس مقابلا لها،
ابتسمت الجنية بلطف لتخاطب راي:
" آسفة للقدوم بدون موعد مسبق، لكن الأمر لا يستحمل الإنتظار.
أنا إيلين، جئت من مكان قريب من هنا.

لقد رأيت ما قاساه الصغار من متاعب لإنقاذ منزلهم و أسرتهم،
إنهم طيبون جدا، و يستحقون كل الخير، لقد مكثوا معي وقتا، لذلك قدمت لهم يد العون و وعدتهم أيضا بالبحث معهم عن والدهم"

أومأ راي ليخاطبها:
" سعيد بمعرفتك آنسة إيلين.
و لطف منك الإعتناء بالصغار، هذا يدل على طيبة قلبك و حسن سريرتك"

أومأت إيلين بامتنان لتضيف:
" لقد جاء هؤلاء الصغار لي بعد جهد مقدر و مخاطر عديدة، كل ذلك كان في سبيل أن ينقذوا منزلهم، ووالدتهم، لقد تألموا، و
عانوا الكثير ليصلوا لمبتغاهم.
و أنت كذلك، سيد راي، يجب أن تقاتل لأجل ما تحب."

صمت راي مفكرا لتستمر:
" أنت تعلم الآن، و لو قليلا، بأن هذا ليس وطنك.
بل وطنك في آركس، حيث من يعرفونك جيدا، و يحبونك، و يفتقدونك كثيرا، هل بسبب خوفك و عدم تحليك بالشجاعة ستترك كل شيء هناك؟ "

تنهد راي ليجيبها:
" الأمر ليس كذلك، من الصعب علي العودة هكذا بحالي هذا...
أنا لا أتذكر أي شيء، من المؤلم أن تعود لأشخاص كانوا ينتظرونك لوقت طويل بلهفة و شوق لك ليكتشفوا أنك لا تتذكرهم حتى، ذلك مؤلم جدا، و أنا لا أريد أذية مشاعرهم.
ربما من الأفضل لو أكون ميتا بالنسبة لهم"

أرخت إيلين يديها على الطاولة لتخاطبه:
" لو كنت مكانهم، هل كنت ستفكر بنفس الطريقة؟
لو كنت تعتقد أن ابنك ميت، و أكتشفت أنه حي و عاد للمنزل، لكنه لا يتذكرك، هل ستكون متألما أكثر من تألمك باعتقادك بأنه ميت؟
سيد كارتر، بكونك جنديا سابقا، يجب أن تكون قد مررت بالكثير، و تدرك معنى أسى الموت"

أخفض راي رأسه ليتنهد بحزن و يجيبها:
" كنت لأشعر بالسعادة كونه حيا على الأقل،
أنا أفهمك آنسة إيلين.
لكن... أنا لا أستطيع.."

"إذا، ما رأيك أن تزور مدينة آركس؟
على الأقل لتطمئنهم أنك حي، و أنك تنوي الإستمرار في العمل هنا؟
سيتفهمون ذلك"

رفع راي رأسه ليوميء و يضيف:
" تبدو فكرة مقبولة... ربما يمكنني القيام بذلك"

هزت إيلين رأسها لتبتسم و تقول:
" إذا يمكنك الذهاب معنا في الغد،
غدا سأعيد الصغار لمنزلهم، يمكنك مرافقتنا"

أومأ راي ممتنا ليشكرها و يردف:
" شكرا جزيلا لك.
ذلك لن يضيرني شيئا، لو اتضح أن عائلتي و منزلي هناك، فيمكنني استسماحهم للعيش هنا.
سآخذ إذنا من العمل و سألتقيكم في الغد"

نهضت إيلين لتشكره ثم تخرج برفقة الصغار،
التفت سوير ليهمس لها:
" إيلين، لماذا لم تشفيه فقط؟ و لم تخبريه أنك تحققين الأماني؟ و أننا ذهبنا لك في الغابة؟"

ابتسمت الجنية لتجيب سوير بهمس:
" يجب على أي شخص أن يمتلك سببا و دافعا،
أن يكون مقتنعا بما يفعله و لماذا يفعله، و لا يجب علينا إجبار شخص على فعل شيء ما دون اقتناعه به،
حتى لو كان ذلك الأمر صوابا.
أنا أفضل استخدام الحجة و المنطق أولا، ثم الأماني و السحر ثانيا.

عندما يعود معكم للمنزل، و يعانق أقرب شخص لقلبه، حينها فقط سيستعيد كل ذكرياته"

اقتربت سارة لتضيف بحزن:
" إذا سنعود للمنزل غدا؟ و لن نودع أصدقاءنا في الغابة؟"

أومأت لينيريا بحزن لتجيبهم الجنية:
" إنهم جميعا لا يطيقون لحظات الوداع، و لا أنتم كذلك.
لذلك سنبقى في منزل صديقة لي هنا الليلة، ثم سنذهب لمنزلكم"

أومأ الصغار بحزن ليسيروا مع إيلين في الطريق،
أسرع سيمون ليقطع طريقهم و يخاطب إيلين بلهفة:
" أيتها الآنسة! لم تخبريني ما اسمك؟ ما زلت مصرا على التعرف بك!
أرجوك أنا لست شخصا فاسدا أو متطفلا، لكن أشعر أننا يمكن أن نكون أصدقاء جيدين"

ابتسمت إيلين لتضحك بخفوت لتحدق سارة نحوه بازدراء و تقول:
" يا لك من متطفل! ألا تخجل من نفسك!
نحن لا نريد أن نعرفك و لا أن نصادقك! "

ربتت إيلين على كتف سارة لتخاطبها:
" لا بأس يا سارة، اتركيه و لا تعنفيه"

رفعت الجنية رأسها لتنظر نحو الشاب مباشرة،
اضطرب سيمون لرؤيتها تنظر له ليشرد في وجهها،
فخاطبته بمهل:
" سيد سيمون، من غير اللائق لشاب يافع محترم مثلك تتبع الآخرين بهذا الشكل، هذا يسبب الإزعاج للآخرين.
إذا أردت معرفة اسمي فأنا إيلين.
أنا لن أمكث هنا طويلا، لذا لا أعتقد أنه ستتاح لي فرصة مشاركتك الحديث لمعرفتك عن قرب و مصادقتك مع أن ذلك كان ليكون شرفا لي.
عن إذنك"

ابتعدت إيلين برفقة الصغار ليراقبهم الشاب و هم يدخلون إحدى المنازل العتيقة، حيث تسكن العجوزة زارا، عجوز فقدت كل أبنائها في الحرب و لا أقارب لها.
تنهد الشاب ليعود للشجرة حيث ينتظره صديقه،
ليجلس بصمت ليجلس صديقه بقربه و يخاطبه بحماس:
" إذا؟ ماذا قالت لك؟! رأيتها تتحدث معك! هل أخبرتك باسمها؟ هيا تحدث سيمو!"

تنهد سيمون ليجيبه بصوت بعيد بينما يسند رأسه لجذع الشجرة:
" إيلين... إنها إيلين.
حسنا لقد تحدثت معي بطريقة مهذبة و محترمة جدا لم تكن لتفعلها آنسة أخرى في مكانها،
ردت علي باحترام أنني أزعجها بملاحقتي، و أنها لن تمكث طويلا هنا، لولا ذلك لوجدت الوقت لمجاذبة أطراف الحديث معي"

هز صديقه رأسه ليقول:
" أعتقد أن هذا يكفي إذا، و يجب عليك تركها و شأنها"

رفع سيمون بصره لينظر للسماء و يضيف بشرود:
" عندما نظرت في عيني مباشرة، نسيت كل شيء و لم يسعني سوى التفكير في كم هي جميلة،
غرقت في عينيها الزرقاوتين و أسرني صوتها الرقيق العذب مع أنها كانت تعاتبني، أسلوبها مهذب جدا و يدل على عقل و قلب كبيرين.
سأظل أحلم و أسعى أن تكون لي"

دخلت إيلين لتستقبلها السيدة العجوز بحفاوة و تعانقها بحرارة،
دخل الصغار كذلك ليغلق سوير الباب و يلتفت ليجد آريون و ديو في صحن الدار كذلك،
جلس الجميع على المائدة لتشد المسنة على كف إيلين و تحادثها بصوت حنون:
"
مضى وقت طويل على زيارتك لي يا بنية!
كيف حالك؟ لقد سعدت جدا برؤيتك، و بضيوفك الأعزاء كذلك"

" أنا بخير يا معلمة، شكرا لك على كل شيء"
أجابت إيلين بينما قبلت يد المسنة المجعدة لتضيف:
" غدا سأذهب لإيصال الصغار لمنزلهم،
بينما سيرحل آريون برفقة ذلك الفتى لمملكة رام"

ابتسمت زارا لتقول:
" دائما ما تساعدين الآخرين، سيجزيك الله خيرا على طيبة قلبك يا بنية"

ابتسمت إيلين لتسأل لينيريا المسنة بفضول:
" جدتي، هل أنت معلمة إيلين؟ ماذا علمتها؟ التاريخ؟"

ضحكت العجوز لتربت على رأس الصغيرة و تجيبها:
" كنت عجوزا فانية حزينة على فراق أبناءها الثلاثة في الحرب، و ذهبت للغابة يوما بغرض اللحاق بهم.
لكن هذه الجنية الجميلة أنقذتني،
و عادت معي للمنزل،
علمتها الكتابة بعدة لغات من لغات البشر، و أخبرتها ببعض القصص القديمة،
ذلك كان رغبة مني في رد دينها علي"

تنهد آريون لينظر عبر النافذة بشرود لتخاطبه زارا:
" ما بالك مهموما يا بني؟"

ابتسم آريون ليجيبها:
" بعض الحزن على الرحيل، الأصدقاء الجيدون لا ينسون ، علاوة على عداوتي السابقة تجاه البشر، أتمنى أن أعيش بسلام مع رأس العشب هذا"
ضحكت سارة ليشيح ديو رأسه و يخاطب آريون:
" لست وحدك من سيترك أصدقاءه، أنا أيضا سأترك أصدقائي في كوارتز"

" تصحيح: رفاقي في السرقة"
أضاف آريون بابتسامة شامتة ليبتعد عنه الفتى و يذهب لحزم أغراضه،
لينهض آريون ليجلس قرب النافذة و يضيف:
" أنا لا أطيق المكوث في مدن البشر،
لكن سنحاول إيجاد مأوى هناك، سآخذ بعض الذهب معي و سأتصرف، ثم سأعمل إما صائد وحوش أو طبيبا"

عند حلول المساء كان الإثنان قد جهزا حقيبتيهما الخفيفتين للرحيل،
اقترب آريون من المرآة المعلقة للحائط ليحدق نحو نفسه مليا و يتمتم:
" شيء ما في يبدو مريبا... هذا الشعر الطويل سيثير الإنتباه"

بحث آريون في حقيبته ليخرج سكينا حادة،
ركضت سارة مسرعة لتتمسك بساقه بقوة و تترجاه:
" آريون! أرجوك لا! لا تقص ضفيرتك الجميلة!"

ضحك آريون طويلا ليربت على رأسها مجيبا:
" لا بأس، إنه مجرد شعر و سينمو.
كما أنني في كلا الحالتين وسيم جذاب!"

ضحكت سارة لتجذب السكين و تضيف:
" إذا سأقصه لك أنا لكي لا تفسده.
هل أنت بدائي؟ يوجد مقص "

رفع الجني حاجبه ليسألها بشك:
" و هل تجيدين قص الشعر؟ لي آذان طويلة و لا أريدها أن تنقطع"

هزت سارة رأسها لتضيف بفخر:
" دائما ما أقص لسوير شعره"

أومأ سوير إيجابا ليتنهد آريون بقلة حيلة ليرتدي معطفه الأسود و يجلس على الأرض،
ابتسمت سارة بحماس لتسأل زارا:
" هل لديك مشط و مقص يا جدتي؟"

وضعت سارة المقص و المشط جانبا لتبدأ بحل ضفيرة آريون الطويلة باستمتاع، ثم تمشط شعره ببطء بالمشط لتنساب خصلات شعره اﻷشقر الطويل على كتفيه و حتى نهاية ظهره،
اقترب سوير و لينيريا لتلمس لينيريا شعره و تضيف:
" ناعم جدا! هل تريدني أن أصنع لك جديلتين؟ أو ذيل حصان؟ و أن أضع لك بعض الزينات الجميلة؟
أنا أعرف!"

" لا شكرا، ما زلت مصرا على قصه "

ابتلعت سارة ريقها لتقصه بحرص و حذر بينما سوير و لينيريا يتابعانها باهتمام، تساقطت الخصلات الطويلة على الأرضية الخشبية لتصفف له شعره بالمشط و تضيف بحماس و سعادة:
" انتهيت!"

بدأ الصغار بجمع خصل الشعر من الأرض لينهض آريون و يقترب من المرآة بترقب ثم ينظر،
خصلات شعره الأشقر القصير تغطي جبهته و عينيه جزئيا، صار شعره يصل لكتفيه بالكاد، مع فرصة أكبر لإخفاء أذنيه.

تنهد آريون ليلمس رأسه و يقول بأسى:
" شكرا يا سارة، هذا يفي بالغرض.
لكن... أشعر بالغرابة، لم أقص شعري منذ وقت طويل جدا .
كنت أفضل الجديلة، ليعود طويلا كما كان سيستغرق عشر سنوات، لكن .. لا بأس"

ابتسم السيد أصفر بشماتة ليهمس لإيلين:
" سيبكي بعد قليل"

مد آريون يده نحو الصوص لسحقه لكنه سحبها مرغما لينفض ردائه الأسود ليصلح بنطاله الأسود و قميصه الأزرق ذي الأكمام الطويلة لينظر في الأرجاء و يشير لقبعة في طرف الحجرة ليسأل زارا:
" هل يمكنني أخذ تلك القبعة يا سيدتي؟"

أومأت العجوز ليحمل القبعة السوداء و يعتمرها ليقول:
" و هكذا أصبحت آريون البشري"

اقترب آريون من الصغار الثلاثة لتضيف سارة:
" صرت رجلا وسيما و عصريا!"

ابتسم الجني ليرفع قبعته محييا لها ليضيف:
" إنه وقت الوداع يا أصدقاء، لقد سعدت، و تشرفت حقا بمعرفتكم"

ثنى آريون ركبتيه ليقصر من قامته و يعانق الصغار الثلاثة الذين عانقوه بحرارة،
بدأت سارة في مسح دموعها لتخاطبه بنشيج:
" للأسف، كنت قد بدأت أتعلق بك، و الآن قد لا أراك مجددا"

" أنت جني طيب يا آريون! نحن جميعنا نحبك!"
أضافت لينيريا ليردف سوير:
" رافقتكما السلامة"

ابتعد الصغار لتستمر سارة في مسح دموعها المتساقطة ليزم آريون شفتيه و يتمتم:
" هكذا سأرحل بألم في صدري يا صغيرة،
لا تبك أرجوك"

و من ثم ربت على رأسها ليضيف:
" سأراك مجددا بالتأكيد، سأظل شابا جذابا بهيئتي هذه لسنوات طويلة لذلك ستعرفينني حتى لو صرت شابة،
و سأقيم في مملك
ة رام في عاصمتها كريستالينا، يمكنك زيارتي هناك.
هذا ليس الوداع، بل إلى اللقاء"

رفعت سارة رأسها لتوميء، ابتسم آريون ليمسح دموعها و ينحني ليطبع قبلة على جبينها،
أسرعت لينيريا راكضة لتضيف:
" أنا أيضا! أنا أيضا!"

قهقه آريون ليضحك الجميع كذلك، ليجثو على ركبتيه و يطبع قبلة على جبهة الصغيرة و يربت على رأسها قائلا:
" ستكونين فتاة مميزة، لينيريا"

أومأت لينيريا مبتسمة لينهض و يسير نحو الطاولة حيث تجلس إيلين، ليمد يده نحو السيد أصفر و يختطفه من الطاولة بسرعة،
تعالت صرخات الصوص كالفرخ الضائع لينفجر آريون ضاحكا و يمسح دموعه ثم يأخذ أنفاسه و يضيف:
" ذلك كان أجمل ما رأيته في حياتي، حلاوة الظفر بالإنتقام.
وداعا أيها الكتكوت، سأفتقدك حقا"

ترك آريون الصوص برفق على الطاولة ليركض السيد أصفر بسرعة و يقف على الطاولة قرب إيلين ثم يخاطب آريون:
" متوحش! شرير! أحمق! لن نشتاق لك أبدا!
من الجيد أنني سأتخلص من مزعج مثلك، هيا أذهب!"

ربتت إيلين على ظهر الكتكوت بأصابعها الرقيقة ليجلس على الطاولة و يغمض عينيه باستمتاع،
نهضت إيلين لتعانق آريون قائلة:
" إلى اللقاء أيها الصديق العزيز، اعتن بنفسك جيدا و بديو الصغير كذلك"

ابتعد آريون ليضع يده على صدره و ينحني احتراما لها ثم يرفع قبعته محييا الجميع بابتسامة،
ليخرج مع ديو و يغلق الباب خلفهم.

تنهد آريون لينظر لسماء الليل و يقول:
" من الآن فصاعدا يجب علينا أن نعمل معا و نتكاتف لنضمن عيشة رغدة هناك، إتفقنا؟"

"بلى، لكن لماذا تترك كل الأشياء التي تحبها خلفك..و حتى تقص شعرك الغالي عليك من أجل العيش معي في بلاد غريبة؟"

ابتسم آريون ليدفع ديو حاثا له على السير و يجيبه:
" لأنني لست وغدا يختبيء في الغابات و لا يفي بوعوده كما نعتني،
لقد وعدت دريموند، و سأفي بوعدي.
أنا لست عجوزا لأقول أنك كابني مع أنك تبدو كأخي الصغير، لكنك ولد طيب و مميز، ستكون قويا حقا لو وجدت معلما رائعا مثلي"

رفع ديو حاجبيه ليسأله باستنكار:
" أخوك؟! أنت أكبر من جدي حتى أيها العجوز!"

" لست عجوزا يا رأس العشب! ما زلت في ريعان شبابي!"

سار الإثنان عبر طرق الحي نحو محطة القطارات،
للذهاب في رحلة بعيدة نحو المدينة الساحلية في الشمال ثم إلى السفينة الشراعية،
نحو البداية الجديدة في مملكة رام، مملكة السحر و الوحوش.
🌸
HTML Embed Code:
2024/04/29 04:39:51
Back to Top