TG Telegram Group Link
Channel: قناة الشيخ محمد سالم بحيري
Back to Bottom
ومن ثمَّ من داوم عليها كلَّ سنة كان كمن صام الدهر كله فرضًا، ومن صامها في سنة دون سنة حصل له ثواب صيام سنة فرضًا في السنة التي صامها مع رمضان، ومن صام ستة غيرها مع رمضان حصل له ثواب صيام سنة نفلًا.
المقصد الثالث: أحوالُ صائمِ ستٍّ من شوالٍ
• إذا صامَ الشخصُ ستة أيامٍ من شوالٍ: فإمَّا أن ينوِي بها الستَّ المستحبَّةَ الواردةَ في الحديثِ، أو أن ينوِي غيرَها، وإذا نواها .. فإمَّا أن ينوِيها مُفْرَدَةً، أو أن يُشَرِّكَها مع غيرها، وإذا نوى غيرَها فإمَّا أن ينفِيَها، أو لا.
• فالأحوالُ اثنتانِ بالإجمال، أربعة بالتفصيل.
الحال الأولى: أن ينوي الستَّ من شوالٍ بلا تشريكٍ مع غيرِها.
إذا صامَ المرءُ ستًّا من شوالٍ بنيةٍ مفردةٍ، أي: بلا تشريكٍ بينها وبين غيرِها .. فله صورتانِ: إمَّا أن يكونَ قد صامَ جميعَ رمضانَ، أو لا.
• فإن كانَ قد صامَ جميعَ رمضانَ .. حصلَ له الثوابُ المخصوص المذكورُ في الحديثِ.
• وإن لم يكن قد صامَ جميعَ رمضانَ فتفصيلٌ ..
فإن كانَ قد أفطرَ لعذرٍ، أو كان في رمضانَ كافرًا فأسلمَ، أو مجنونًا فأفاقَ .. نُدِبَ له صومُها، ولكن لا يحصلُ له الثوابُ المخصوص المذكور في الحديثِ؛ لترتبه في الحديث على صيامِ رمضانَ، أي: جميعِهِ.
وإن كانَ قد أفطرَ تعديًا حرم عليه صومُها استقلالًا؛ لأنه يلزمُهُ القضاءُ فورًا، فواجبُهُ صرفُ الزمان لقضاء ما عليه، فإن قضـى ما عليه ارتفع التحريم.
قال ابنُ حجر رحمه الله في «الإمداد» والرمليُّ رحمه الله في «النهاية»: «قضيةُ كلام ‹التنبيه› وكثيرين أن من لم يَصُم رمضان لعذرٍ أو سفرٍ أو صبا أو جنون أو كفر لا يُسَنُّ له صومُ ستة من شوال، قال أبو زرعة: ‹وليس كذلك›، أي: بل يحصل أصلُ سنةِ الصومِ وإن لم يحصل الثواب المذكور؛ لترتبه في الخبر على صيام رمضان، وإن أفطر رمضان تعديًا حَرُمَ عليه صومها، وقضية قول المحاملي تبعًا لشيخه الجرجاني: ‹يكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع بالصوم› كراهةُ صومها لمن أفطره بعذر، فينافي ما مر إلا أن يُجمع بأنه ذو وجهين، أو يحمل ذاك على من لا قضاء عليه كصبي بلغ وكافر أسلم، وهذا على من عليه قضاء»، وكتب عليه الرشيدي رحمه الله: «قوله: ‹وإن أفطر رمضان تعديًا حرم عليه صومها› أي: ما لم يقضِ رمضانَ كما هو ظاهرٌ؛ لأن الواجب عليه صرف الزمن لقضائه».
وعبارة «التحفة»: «(وستة) في نسخة: ‹ست› بلا تاء كما في الحديث، وعليها فسوغ حذفها حذف المعدود (من شوال) لأنها مع صيام رمضان، أي: جميعِه، وإلا لم يحصل الفضل الآتي، وإن أفطرَ لعذرٍ .. كصيام الدهر، رواه مسلم»، ثم قال بعد أسطر: «وقضية المتن ندبُها حتى لمن أفطر رمضان، وهو كذلك إلا فيمن تعدى بفطره؛ لأنه يلزمه القضاء فورًا، بل قال جمعٌ متقدمون: يكره لمن عليه قضاء رمضان - أي: من غير تعدٍّ - تطوع بصوم».
وقوله: «وإن أفطرَ بعذرٍ» غايةٌ في ندبِ صومِها لا في كونِها كصيام الدهر كما هو ظاهرٌ.
الحالُ الثانية: أن ينويَها مُشَرِّكًا بينها وبين غيرِها.
إذا نوى الشخصُ صومَ الستِّ من شوالٍ مشرِّكًا بينها وبين غيرها، كأن صامَ نذرًا ستًّا من شوالٍ جامعًا بين النيتينِ .. صحَّ صومُهُ، ولم يكُ هذا الجمعُ بين النيتينِ مبطلًا للصومِ على المعتمد عند ابن حجر والرمليِّ خلافًا للإسنويِّ، لكن ينبغي ورودُ تفصيلٍ في ترتب الثواب المخصوص، فهنا حالان:
• فإذا كانَ ما نواه معها قضاءَ رمضان الذي سبقها .. فقضية النصين السابقين عن «التحفة» و«النهاية» عدمُ ترتب الثواب المخصوص في الحديثِ؛ لأنه لم يصدق عليه أنه صامَ جميع رمضانَ، ثم أتبعه بستٍّ من شوالٍ.
• وإن كان ما نواه معها غيرَ قضاءِ رمضان الذي سبقها، كأن نوى معها قضاءَ رمضان آخر، نذرًا أو كفارةً .. ترتب الثوابُ المخصوصُ إذا كان قد قضى جميع رمضان الذي سبقها كما يُعلم من عبارتي «التحفة» و«النهاية».
الحال الثالثة: أن ينوي في شوالٍ غيرَها كقضاءٍ بلا نفي لها بالنيةِ.
فإذا صامَ ستة أيام من شوال، ونوى نحوَ القضاءِ، ولم يصرفها بالنيةِ .. فقد اختلفَ ابنُ حجر والرمليُّ رحمهما الله في حصولِ ثوابِ التطوُّعِ بستةِ أيامٍ له.
• فاعتمدَ الرمليُّ رحمه الله أنه يحصُلُ له ثوابُ التطوعِ بصيام ستة أيام، ولكن لا يحصل له الثوابُ الكاملُ المرتبُ على المطلوب.
وعبارة «النهاية»: «ولو صام في شوال قضاءً أو نذرًا أو غيرَهما، أو في نحو يوم عاشوراء .. حصل له ثواب تطوعها كما أفتى به الوالد - رحمه الله تعالى - تَبَعًا للبارزي والأصفوني والناشري والفقيهِ علي بن صالح الحضرمي وغيرِهم، لكن لا يحصُل له الثواب الكامل المرتب على المطلوب، لا سيما من فاته رمضان وصامَ عنه شوالًا؛ لأنه لم يصدُق عليه المعنى المتقدم».
• أمَّا ابن حجر رحمه الله فاعتمد أنه لا يحصلُ له ثوابُ التطوع بصيامِ ستة أيامٍ؛ لأنه لم ينوِ الستَّ.
وعبارته في «فتح الجواد»: «أفتي جمعٌ متأخرون بحصول ثواب عرفة وما بعده بوقوع صومِ فرضٍ فيها، وقال الإسنوي: ‹القياس أنه إن لم ينوِ التطوع حصلَ له الفرضُ، وإن نواهُمَا لم يحصل له شيءٌ منهما›. انتهى، وإنما يتم له إن ثبت أن الصومَ فيها مقصودٌ لذاته، والذي يتجه أنَّ القصدَ وجودُ صوم فيها، فهي كالتحية، فإن نوى التطوعَ أيضا حَصَلَا، وإلا سقط عنه الطلب، وبه يجمع بين العبارات المختلفة في ذلك».
وقوله فيه: «وما بعده» أي: مما ذُكر في «الإرشاد»، وهو عاشواء وتاسوعاء والست من شوال والأيام البيض والاثنين والخميس.
وعبارة «الإمداد»: «أفتى البارزي، ووافقه الأصفوني وغيرُه، بأنَّ من صام نحوَ عرفة وغيرَهُ مما مرَّ عن قضاء أو نذرٍ حصل له ثواب تطوعها ضمنًا، وقال الإسنوي: ‹القياسُ أنه إذا لم ينوِ التطوع حصل الفرض، وإن نواه لم يحصل له شيءٌ منهما›. انتهى، وأنت خبيرٌ بأنَّ قياسَ التحية أنه إذا لم ينوِ التطوع سقط عنه الطلبُ؛ لأن القصد صومٌ في هذه الأيام، وقياسها وقياس ما لو كان عليه غسل جنابة وجمعة أنه إذا نوى التطوع أيضًا حصل له ثوابه، فاندفع قوله: ‹القياس ما ذكر›، وعلم أن إطلاق البارزي وغيره حصول الثواب مخالفٌ للقياس المذكور، فالأوجه ما قلتُه».
ويوافق هذين النصين نصُّهُ في «الإيعاب» على أنه لو وقع الاثنين والخميس في الستِّ من شوالٍ، وقد نوى أحدهما .. فإنه يسقط طلب الآخرِ، ولكنه لا يَحوزُ ثوابَه؛ إذ لم ينوِه، وعبارته فيه: «قال شيخ الإسلام السراجُ ابنُ الملقن: (وقد يُوجَد للصوم سببانِ كوقوع عرفة أو عاشوراء يوم اثنين أو خميس، وكوقوعِهِما) أي: الاثنينِ والخميسِ (في ستة شوال، فيتأكد) صومُ ما له سببانِ؛ رعاية لكل منهما (فإن نواهُمَا حَصَلَا كالصدقةِ على القريب صدقةٌ وصلةٌ، وكذا لو نوى أحدهما فيما يظهر) انتهى. وقدمتُ الكلام على ذلك في بحث ‹نية الصوم›، والذي يتجه ما قدمتُه من الخلاف ثَمَّ أنَّ من قال بحصولِهِما فيما إذا نواهُمَا أرادَ به حيازةَ ثوابِهِما كما لو نوى تحية المسجد وسنةَ الظهرِ، أو الجنابةَ وغسلَ الجمعة، وفيما إذا نوى أحدَهُما أرادَ به إسقاطَ الطلب النسبة لغير المنوي دون حيازة ثوابه؛ لاستحالة حصولِه بدون نية، ومن قال: ‹لا يحصلان› أو ‹لا يحصل أحدُهما› أراد به عدمَ حيازةِ الثوابِ الكاملِ نظير ما مَرَّ في تحية المسجد»، ونحوُها في «حاشيته على العباب».
فالحاصلُ أنه إذا صام الشخصُ ستة أيام من شوال، ونوى قضاءً أو نذرًا أو نفلًا آخرَ كالاثنينِ، ولم ينوِها بخصوصِها، ولم يصرفْها بالنيةِ .. حصل له ثوابُ التطوع بستة أيامٍ دون الثوابِ الكامل عند الرمليِّ، أمَّا ابن حجر فمعتمدُهُ أنه لا يحصلُ له ذلك؛ لأنه لم ينوِه.
وممن حكى الخلاف بينهما العناني رحمه الله في «حاشيته على شرح المنهج» فقال بعد إيراد عبارة الرملي: «واعتمد ابن حجر عدمَ الحصول».
الحال الرابعة: أن يصوم ستًّا ناويًا نحوَ قضاءٍ مع نفي الستِّ من شوال بالنية.
إذا صام الشخصُ ستة أيام من شوال، ونوى قضاءً أو نذرًا أو نفلًا آخرَ، ونفى الستَّ من شوالٍ بالنيةِ .. فلا خلاف بين ابن حجر والرمليِّ رحمهما الله أنها لا تحصلُ له..
وعبارة «النهاية» في ذلك: «وما أفتى به الوالد - رحمه الله تعالى - أيضًا أنه يُستحَبُّ لمن فاته رمضان وصام عنه شوالًا أنْ يصومَ ستًّا من ذي القعدة؛ لأنه يستحب قضاء الصوم الراتب .. محمولٌ على من قصدَ فعلَها بعد صوم شوال، فيكون صارفًا عن حصولِها عن الستة، فسقط القول بأنه لا يتأتى إلا على القول بأن صومها لا يحصل بغيرها، أما إذا قلنا بحصوله - وهو الظاهر - فلا يستحب قضاؤُها».
أمَّا ابن حجر فقولُهُ في النصين السابقين في «فتح الجواد» و«الإمداد» في نحو عرفة والست من شوالٍ: «إنه كالتحية» قضيتُهُ أنه إن صرفَها بالنيةِ لم تحصل له، بل هو معلومٌ بالقياس الأولوي على كلامِهِ فيما إذا لم ينوِها، فإنه إذا لم يقل بحصول ثوابها فيما إذا لم ينوِها أصلًا، فأولى أن لا يحصل عنده ثوابُها فيما إذا نفاها.
وممكن حكى الخلافَ بينهما الكرديُّ رحمه الله في «فتاويه»، فقال رحمه الله: «فتلخص أنه عند ابن حجر: إنْ نوى الكلَّ حَصَلَ ما نواه، وإن نوى البعضَ .. حَصَلَ ما نواه، وسقط طلبُ التطوع الذي لم ينوِهِ، لكن بلا حصولِ ثوابٍ له، وعند الجمال الرملي ومن تبعه: يحصُل ثواب سائر التطوعات وإن لم يَنْوِها ما لم تُصْرَفِ النيةُ عن شيءٍ منها، فلا يحصل ذلك حينئذ، والله أعلم»، وإلى الخلاف أشارَ في «المواهب المدنية» كذلك.
المقصد الرابع: ما يُندب في صيامها
نصَّ أئمتنا رضي الله عنهم على ندبِ أمرينِ في صيامِ الستِّ:
الأولُ: كونُها متتابعة.
والثاني: اتصالها بيوم العيدِ.
وذلك مبادرةً للعبادةِ؛ إذ لا يُؤمَن الفواتُ.
قال ابن حجر رحمه الله في «الإيعاب»: «(ويُسَنُّ فيها التتابعُ والاتصال بالعيد) مبادرة بالعبادة، فإن فرَّقها، أو لم يوصلها بالعيد .. فاتَهُ ثوابها الكامل، وكره بعضُ العلماء وصلها به؛ لأنه يُوهِمُ العامَّةَ وجوبَها، وهو مردودٌ؛ فإن هذا لا يخفى الآن على أحد ممن هو مخالط للمسلمين، وعلى التنزل: فاعتقادُ النفلِ واجِبًا لا محذورَ فيه».
ثُمَّ وجدتُ باعشن رحمه الله يستحبُّ إيقاعَ صومها في أيام البيضِ؛ لما في التأخير من الكمال الذي لا يشتملُ عليه التقديمُ، فقال رحمه الله في «المواهب السنية»، وهو أصلُ «بشرى الكريم»: «وهل الأفضل اتصالها بالعيد أو صومها في أيام البيض والسّود ليحصل له فضيلتهما مع فضل السّت؟ الذي يظهرُ الثاني؛ لما مَرَّ في الصلاة: أن كلَّ كمالٍ اشتملَ عليه التأخير، وخلى عنه التقديم .. يكون التأخيرُ أفضلَ، وهذا إن قلنا: ‹لا يضرُّ التشريك في الصوم› كما مَرّ في مبحث التعيين في النيّة».
ثم وجدتُهُ قد خالفَ ذلك في «بشرى الكريم»، فقال: «ويظهر أنَّ اتصالها بالعيد أفضلُ من صومها أيام البيض والسود وإن تأدى بذلك ثلاث سننٍ؛ لما في ذلك من الخلاف القوي، خصوصًا إذا نوى ستَّ شوالٍ مع البيض والسود؛ لِمَا مر في الكلام على التعين في النية عن الإسنوي من عدم حصول شيء منها».
المقصد الخامسُ: قضاؤها إذا فاتت.
اعتمد ابنُ حجر والرمليُّ رحمهما الله أنَّ من فاتَهُ صيامُ الستِّ من شوالٍ نُدِب له قضاؤها في ذي القعدة.
ويُعْلَمُ من كلام الرمليِّ رحمه الله في «النهاية» أنَّ محلَّ ندب قضائها: إذا نفاها في صومِ غيرِها في شوالٍ، فإذا صامَ غيرَها كقضاءٍ، ولم ينفِها في النيةِ .. لم يندب القضاءُ؛ لأنه حاصلةٌ له، أي: يحصُلُ له أصلُ الثوابِ، وقد علمت أنَّ الذي يأتي على معتمد ابن حجر أنه لا يكتفى لحصولِها بأنْ لا ينفيها، بل لا بد أن ينوِيَها لتحصُلَ له.
وعبارة «التحفة» في ذلك: «ولو فاته رمضانُ، فصام عنه شوالًا .. سُنَّ له صومُ سِتٍّ من القعدة؛ لأن من فاته صومٌ راتبٌ يسن له قضاؤه»، وعبارة «الإيعاب»: «يُندب لمن استغرق صومُهُ القضاءَ شوالًا، أو كان له عذرٌ آخرُ منعَهُ من صومها فيه .. أن يصوم الستة من القعدة كما يأتي».
ومرادُهُ بقوله: «كما يأتي» قوله بعد ذلك في «الإيعاب»: «وعُلِمَ من كلامِهم هنا وفي صلاة النفل أن الصوم الراتب يُنْدَبُ قضاؤُهُ، وهو ظاهرٌ، وزَعْمُ أنه لا يُندب كالأضحية، فهو بذات السبب أشبَهُ .. يُرَدُّ بأن الأضحية بخروج وقتها ينسلخُ عنها اسمُ الأضحية، فلما زال اسمها زال طلبها من حيث كونها أضحية، فلم يندب تداركها من تلك الحيثية المذكورة له؛ لتعذرها، بخلافه هنا، فإن بفوات الوقت لا يزول اسم الصوم، فطلب تداركه كتدارك رواتب الفرائض، وأي فرق بينهما؟ ويُفَرَّقُ بينه وبين ذات السبب بأنها لا تختص بزمن، بل تعرض بعروضِ السبب، وتنتفي بانتفائِه، فأشبهت الأضحية، ثم رأيت الزركشـي وغيره صَرَّ حا في ست شوال بأنه يسن قضاؤها»، ونقلَهُ الشيخ محمد الشوبري رحمه الله في «حاشيته على التحرير»، ومنه صوَّبت بعض ما وقع في النسخة.
وعبارة «النهاية»: «وما أفتى به الوالدُ - رحمه الله تعالى - أيضًا أنه يُسْتَحَبُّ لمن فاته رمضان وصام عنه شوالا أن يصوم ستًّا من ذي القعدة؛ لأنه يستحب قضاء الصوم الراتب .. محمولٌ على من قصد فعلها بعد صوم شوال، فيكون صارفًا عن حصولها عن السنة، فسقط القول بأنه لا يتأتى إلا على القول بأن صومَها لا يحصلُ بغيرِها، أما إذا قلنا بحصوله - وهو الظاهر - فلا يستحبُّ قضاؤُها».
وكتب عليه الشبراملسيُّ رحمه الله: «قوله: ‹فلا يستحب قضاؤها› وبتقدير القضاء فهل يثاب ثواب الفرض على الجميع كما لو صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوالٍ؟ قال سم: ‹فيه نظر›. أقول: والأقرب حصول ذلك؛ لأن القضاء يحكي الأداء، ونقل عن الشهاب الرملي بالدرس أنه يُثاب على الستة ثواب النفل، ويُوَجَّهُ بأن ثواب الفرض في الخبر مقيدٌ بكونها من شوال، وهذه ليست منه».
وخالفَهُما القليوبيُّ رحمه الله، أي: خالفهما في ندب القضاء، ففي «حاشيته على المحليِّ» في صورة ما إذا صامَ شوالًا عن رمضان قضاءً قال: «فإن صامه عنه .. دخلت فيه، ويحصلُ ثوابُها المخصوصُ، وكذا ثوابُ رمضان المخصوصُ خلافًا للإسنوي، فإن قصدَ تأخيرَها .. لم تدخل، ويصومها من ذي القعدة، وفيه ما يأتي».
ويعني بقوله «وفيه ما يأتي» قوله بعد أسطر: «وتفوتُ بفواتِه، وفي ‹شرح شيخنا الرملي› ما يقتضي أنه يُندب قضاؤها بعد شوال إذا لم يصمها فيه ولو بغيرِ عذرٍ، وفيه نظر؛ لأن جميعَ أنواع هذا الصوم المذكور لا يُقْضَى؛ إذ ليس لها وقت محدود الطرفين كما في الصلاة فتأمله».
ووقع في «حاشية الشرقاوي على التحرير» ما يُوهِمُ متابعته القليوبيَّ حيث قال: «وتفوتُ بفوات شوال»، ولكن أَوَّل عبارتَهُ العلامة الإنبابي رحمه الله في «تقريره على حاشيته» فقال: «لعل المعنى يفوت ثوابَها الكامل؛ أخذًا مما يأتي»، أي: مما ذكره عن الرمليِّ ووالدِهِ من قضائها في ذي القعدة فيما إذا صرفها بالنية، وكذلك أوَّلَهُ الشيخ الذهبيُّ رحمه الله في «تقريره على الحاشية» فقال: «لعله يفوت أداؤها؛ لأنه يستحبُّ قضاء الرواتب».
المقصد السادس: حصول الفضل الوارد في الحديث ببدل الصوم.
بحثَ البرماوي رحمه الله أنَّ من عجزَ عن صومِ رمضانَ، وأطعمَ عنه، ثم شُفِيَ يومَ العيد، ثم صام ستةَ أيامٍ من شوال .. حصل له الثوابُ المذكورُ في الحديث.
وعبارته في «حاشيته على شرح المنهج»: «قوله: ‹ثُمَّ أتبعه› أي: حقيقة إن صامه وحُكْمًا إن أفطر؛ لأنَّ قضاءه يقع عنه فكأنه مقدَّمٌ، ومن هنا يُعلم أن من عجز عن صوم رمضان، وأطعم عنه، ثم شفي يوم العيد مثلًا، ثم صامَ ستة أيام من شوال .. حصلَ له الثوابُ المذكور في الحديث، ولا مانع من ذلك، ونظيره ما قاله العز ابن عبد السلام فيمن فَطَّرَ ستًّا وثلاثين شخصًا كان كمن صام الدهر».
والخلاصة:
يُنْدب صيامُ ستٍّ من شوالٍ متتابعة عقب يوم العيدِ، ويحصلُ أصلُ السنةِ بصيامِ ستة أيامٍ من شوالٍ ولو عن قضاءٍ أو نذرٍ أو نفلٍ آخرَ بشرطِ أن ينوِيَها معه عند ابن حجر، ولكن لا يحصل الثوابُ الكاملُ المذكور في الحديث إلا إذا صامَ جميع رمضان، فإذا أرادَ من عليه أيامٌ من رمضان تحصيل الثوابِ المذكور في الحديثِ صامَ ما عليه أولًا، ثمَّ صامها، وإذا فاتت نُدب قضاؤها.
والحمد لله ربِّ العالمين.
تمَّ ما أردتُ إبانته في هذه المسألة، والله يجزي الخير من دعا لنا ... ومن على دعائه قد أمَّنا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وقوله: «يا غلام؛ سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» فيه تعليم الصبيان ما يحتاجون إليه من أمور الدين وآدابه. وهذه الأوامر كلها على الندب؛ لأنَّها من المحاسن المكمّلة والمكارم المستحسنة. والأصل فيما كان من هذا الباب: الترغيب والنّدب.
أبو العباس القرطبي في المفهم
هل خالفَ المذهبُ الشافعيُّ – أو غيرُه – الدليلَ ؟ (حوارٌ مع صديقي غير المتمذهب)
===
بعض أهل الزمان ينفر من مسألة التمذهب ، زاعمًا أن التمذهب خلاف الأخذ بالدليل ، وأن الواجب على طالب العلم أن لا يتبع مذهبًا معينًا ، وإنما يتبع ما دلَّ علبه الدليلُ .
والذي سبب هذا الضرب من الفهم عدة إشكاليات في أفهام بعض أهل الزمان :
• الإشكالية الأولى : محاكمة الأدلة المستدل بها في كتب المذاهب – من جهة الثبوت - إلى كلام عالم واحد أو عالمين في الحديث .
فإذا كان الدليل المحتج به في كتب المذهب قد صححه هذا العالم فالمذهب احتج بالصحيح ، وليتبع ، وإذا كان الدليل المحتج به قد ضعفه هذا العالم فدليل المذهب ضعيف ، وهذا مسلك عجيب ؛ إذ إن الذي يريد أن يرمي مذهبًا بمخالفة صحيح الأدلة في مسألة ، أو بالاستدلال بضعيفها ، عليه أولًا أن يثبت العرش ثم ينقش ، فعليه أن ينظر في أقوال الحفاظ في الدليل صحة وضعفًا ، ولا يحملنا على مذهب العالم أو المحدث الذي يقلده ، مهما بلغ علمه وجلالته .
وبالجملة ؛ فصاحبنا المنكر على المذهب - في الغالب - مقلد لعالم معين في التصحيح والتضعيف ، ومن ثم فلا يجوز له الإنكار على المذهب ، فضلًا عن رمي المذهب بمخالفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضلًا عن اتهام أصحابه بالتعصب .
مثالٌ على ذلك : يقول قائلٌ : «إن المذهب الشافعيَّ خالف الدليلَ ، فقد أجاز الإمام الشافعيُّ بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ، وقد أخرج الترمذي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة» .
وصاحبنا هذا قد اتهم المذهب الشافعي بمخالفة الدليل ؛ لأنه ما عرف إلا أحكام هذا العالم ، ولو اطلع – إذا أراد أن يطلع – لوجد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله – وهو الحافظ الناقد – قد ضعف الحديث ، ويقول : «ليس فيها حديثٌ يعتمد عليه ، ويعجبني أن يتوقاه» ، فضلًا عن كلام الحفاظ النقاد في كل طريق من طرق الحديث .
• الإشكالية الثانية : الجهل بأصول هذه المذاهب :
أكثر المنكرين على المذاهب إنما يؤتون من جهلهم بأصولها ، ومن يريد أن يحاكم مذاهبًا معينًا من جهة موافقته للدليل وعدمه لا بد أن يلم بأصوله إلمامًا جيدًّا من خلال كتب أصحاب المذهب في الأصول ؛ كيلا يرمي المذهب بمخالفته الدليل .
مثالٌ : كم اعْتُذِر عن الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – في قوله : «يجوز للمرأة تزويج نفسها بنفسها بكفءٍ ومهر» بأن الحديث لم يبلغه ، ورغم أن هذه الاعتذار فيه ما يحمد من حيث إنه أدبٌ مع إمام جليل ، إلا أنه يذم من حيث إنه كلام فيما لا يحسن المرء ، وقفزٌ على أصول السادة الحنفية ، ذلك أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله ما ترك العمل بخبر إبطال النكاح بلا ولي ؛ إلا لأن من أصله - كما قال أصحابه* - اشتراط ألا يخالف خبرُ الوَاحِد ما هو أقوى مِنْه من كتابٍ أو سُنَّة متواترةٍ ، وقد خَالَف خبرُ [أَيُّمَا امرأةٍ ...] عِنْدَه – وهو أَصْرَحُ مَا فِي البَابِ - قَولَهُ تَعَالَى ﴿ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ ، في إسناد النكاح إليهن لا إلى الأولياء ، وكذلك من الجهة الحديثية فإن الزهري راوي الحديث قد أنكر أن يكون قد حدث سليمان بن موسى به ، وهذا قادح عند أبي حنيفة رحمه الله...
اتفق مع هذا أو اختلف ، ولكن المذاهب لا تؤخذ بالصدور والأذرع.
• الإشكالية الثالثة : إشكالية تداخل الأصول .
ونعني بتداخل الأصول أن الدليل الواحد قد يتنازعه أكثر من أصل ، فيتعلق الناظر بأصل ، ويغفل عن الأصول الأخرى ؛ متهمًا المذهب بمخالفة الدليل ، أو بمخالفة أصله الذي سطر في تصانيف الأصول .
فمثلًا : يعترض معترض على تجويز تمني الموت لضر ديني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به» ؛ متعلقًا بالنهي الوارد في صدر الحديث ، وهذا الدليل قد تداخلت فيه أصول ، منها دلالة النهي على التحريم ، ولكن ثم أصل آخر ، وهو حمل المطلق على المقيد حالة اتحاد الحكم والسبب ، وقد وردت رواية أخرى مقيدة : «لضر نزل به في الدنيا» ، فحمل المطلق على المقيد ، ومن ثم فالضرر الذي يحرم تمني الموت من أجله هو الضرر الدنيوي ، أما الضرر الديني فيجوز فيه تمني الموت .
فصاحبنا قد أُتِي من هذه الجهة : أنه تعلق بأصل ، وغفل عن آخر ، في دليل قد تداخلت فيه الأصول .
الإشكالية الرابعة : إشكالية تصور القرينة .
كثيرٌ من الأوامر التي اتفق علماءُ المذاهب الأربعة على حملها على الاستحباب قد حملها بعض أهل الزمان على الوجوب ، وكذلك الحال في النواهي ، وهذا لإشكال في تصور القرينة ، فبعض أهل الزمان لا يتصور إلا القرينة المقالية ، ولا يسمع بما سماه الأصوليون «القرينة الحالية» ، والتي صرف بها الفقهاء أوامر كثيرة من الوجوب إلى غيره ، وصرفوا بها نواهي من التحريم إلى غيره .
• الإشكالية الخامسة : تلقي الفقه المقارن عن كتب مُشَوَّهة ؛ للضعف العلمي لأصحابها .
فمن البلايا المعاصرة ما تراه في بعض السندوتشات الفقهية المعاصرة ، المسماة خطأ بـ«كتب الفقه المقارن» أو «الفقه على الراجح» ... وذلك في طريقة الاستدلال للمذهب المخالف .
حيث ترى صاحبنا حواشًا يستدل بأي شيء وقف عليه في كتب المذهب أو في كتب غيره أو في كتب التخريج ، ولا يفرق بين الدليل المعتمد عليه في الاستدلال والدليل المستأنس به .
مثالٌ : في «سندوتش من السندوتشات الفقهية المعاصرة» (ج1/ص59) : «يجوز السواك بعد الزوال للصائم على الراجح من أقوال أهل العلم ؛ لعموم الأدلة السابقة ... وهذا قول عمر ووو... ومالك وأبي حنيفة والمشهور من مذهب أحمد لعدم وجود دليل مانع من استعماله ؛ حيث أن ما استدل به من منع من السواك بعد الزوال كحديث عليٍّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا صمتم فصوموا فاستاكوا بالغداة ، ولا تستاكوا بالعشي) ، فالرد عليه أن أن الحديث ضعيف ؛ لجهالة بعض الرواة ولين البعض» .
هكذا طار صاحبنا بتضعيف الحديث لعدم تفريقه بين المعتمد في الاستدلال والمستأنس به ، وأظهر الشافعية (وهم أصحاب هذا القول) بمظهر المستدل بالضعيف ، وصاحبنا المحقق قد بين لهم ضعف دليلهم .
والذي لا يعرفه صاحبُنا أن الشافعية قد بينوا ضعف الحديث منذ ألف سنة تقريبًا قبل أن تكتحل أعينُنا برؤيته الكريمة ، حيث ضعف الحديثَ الإمام البيهقيُّ (ت458هـ) في «معرفة السنن الآثار» (ج6/ص333) ، وكذا من بعده ، وليس الدليل هو المعتمد في الاستدلال أصلًا .
أما الدليل المعتمد في الاستدلال على كراهة السواك بعد الزوال ، فهو حديث البخاري : «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» ، فقال الشافعية : لما كان الخلوف أثر عبادة مشهود بها بالطيب كرهت إزالته كدمِ الشهيد .
اتفق مع هذا أو اختلف ، ولكن قبل أن تصنف للأمة في الفقه المقارن تعرف على منهج الاستدلال للمذاهب .
• الإشكالية السادسة : القصور في الاطلاع على آثار الصحابة :
لا يخفى على أحد أن الكتب المعتنية بآثار الصحابة كمصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسنن البيهقي الكبرى وتهذيب الطبري ونحوها لا يكاد يطلع عليها في هذا الزمان إلا قليلٌ من الناس ، فلهذا القصور تتهم كثير من آراء الأئمة بأنها لا سلف لها ، أو أنها تخالف إجماعًا سكوتيًّا ، أو نحو ذلك .
فترى مثلًا قائلًا يقول لك : «إن مذهب الشافعية قد خالف الدليل حيث كره الإسبال لغير خيلاء ، ولم يحرمه ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أنكر على الشاب الذي أتاه يعوده في مرض موته ، فقال له : (ارفع ثوبك ؛ فإنه أتقى لربك ...) .
وصاحبنا هذا عنده مشكلتان ، مشكلة في فهم دلالة الأثر ، ومشكلة في الاطلاع على آثار السلف .
أما المشكلة الأولى : فإن قول عمر رضي الله عنه من أقوى ما يستدل به على الكراهة التنزيهية لا الحرمة ؛ إذ في استعمال عمر رضي الله عنه لصيغة التفضيل دلالةٌ واضحةٌ على ذلك ، كما لو قلت : «زيد أتقى من خالد» ؛ فإنك لا تنفي التقى عن خالد ، وإنما تثبت فضيلة لزيد على خالد في التقي ، فكذلك أثبت عمر رضي الله عنه فضيلة لحال تقصير على الإزار على إسباله .
فالأثر في الحقيقة دال على الكراهة التنزيهية لا التحريمية .
وأما المشكلة الثانية فهي عدم الاطلاع على آثار السلف في المسألة ، مع كثير من التجرأ على نسبة فهمه هو – هو هو – إلى السلف في المسألة الفروعية ، وهذان أثران عن السلف في المسألة ، فضلًا عن أثر عمر رضي الله عنه ذي الدلالة القوية على الكراهة :
• فقد ثبت عن أبي إسحاق السبيعي أنه قال : «رأيتُ ابنَ عبَّاس - رضي الله تعالى عنه - أيام منى طويل الشعر ، وعليه إزار فيه بعض الإسبال ، وعليه رداء أصفر» .
هذا الأثر أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1/314) وابن سعد في «الطبقات» (6/344) والطبراني في «المعجم الكبير» (10/288) من طريق الفضل بن دكين وزحمويه كلاهما عن شريك عن أبي إسحاق السبيعي به.
وشريك هو ابن عبد الله النخعي ، وفيه مقال مشهور من جهة تغير حفظه بعد توليه القضاء ببغداد ، إلا أنَّ أحد الراويين عنه واسطي ، وهو زكريا بن يحيى بن صبيح اليشكري الواسطي ، الشهير بزحمويه ، وحديث أهل واسط عن شريك جيد ، فقد قال ابن حبان – رحمه الله - في «الثقات» (6/444) : «سماعُ المتقدمين عنه الذين سمعوا منه بوَاسِط ليس فيه تخليط مثل يزيد بن هارون وإسحاق الأزرق ، وسماع المتأخرين عنه بالكوفة فيه أوهام كثيرة».
وقد حسَّنَ الأثرَ الهيثميُّ رحمه الله في «مجمع الزوائد» (9/464) .
• ثبت عن أبي وائل أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يسبل إزاره ، فقيل له ، فقال : «إني رجل حمش الساقين» .
هذا الأثر قد أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (8/202) قال : حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن أبي وائل عن ابن مسعود به ، وهذا إسنادٌ لو قرئ على مجنون لأفاق !
وقد جوَّده الحافظ ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري» (10/264) ، وللأثر طريق أخرى أخرجها البغوي في «معجم الصحابة» (3/465) ، ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (33/149) ، عن زياد بن أيوب نا هشيم أخبرنا سيار عن أبي وائل أن ابن مسعود رأى رجلًا قد أسبل فقال : «ارفع إزارك» ، فقال : «وأنتَ يا ابن مسعود فارفع إزارك» ، فقال عبد الله : «إني لست مثلك ، إن بساقي حموشة ، وأنا أؤم الناس» ، فبلغ ذلك عمر ، فجعل يضرب الرجل ، ويقول : «أتَرُدُّ على ابن مسعود ؟!» .
قال ابن منظور في «لسان العرب» (11/321) : « يُقالُ : أسبلَ فلانٌ ثيابَه إذا طوَّلَها وأرسلَهَا إلى الأرض» .
• الإشكالية السابعة : التوهم أن نظره يساوي نظر المجتهد في الدليل :
أكثر الذين يزعمون الاجتهاد في الأدلة ، ويردون على الأئمة استدلاتهم لا يزعمون بألسنتهم مساواتهم في العلم والفضل للأئمة الكبار ، وإنما يزعمون ذلك بالفعل ، فإذا ذكرتُ لكَ احتجاجَ الشافعي على مسألة معينة تسمع ردود من أنواع : «ليس في الحديث دلالة ... استدلال ضعيف ... يخالف القاعدة التي تقول ... ونحو ذلك » .
وصاحبنا هذا لا بد أن يعلم أن الفرق بين عينه الناظرة في الدليل وعين الشافعي وأحمد ومالك وأبي حنيفة والأوزاعي وغيرهم كالفرق بين عين مجردة وعين ميكروسكوبية .
فالمجتهد حينما ينظر في الدليل يتبدى له أضعاف أضعاف ما يتبدى لك من استنباطات وإيرادات على الاستنباطات وإيرادات على الإيرادات .
مثالٌ على ذلك : الحديث المشهور في صلاة الجماعة بهم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق المتخلفين عن الجماعة ، في كل جملة من جمل هذا الحديث استنباطات وإيرادات تأتي على ذهن المجتهد ، قد خطرت لك حين النظر في الدليل .
وأضرب مثالًا بقضية واحدة ، وهي قضية الهم ، هم النبي صلى الله عليه وسلم بفعل معين ، هل هو فعل أو قول أو قسم برأسه ؟ وهل هو حجة مطلقًا أو ليس بحجة ؟ وإذا كان حجة فهلْ ثَمَّ تفصيلٌ بين المَعْدُول عنْهُ والمُحَال دُونَهُ والخَارجِ مخرجَ الذَّمِّ ؟ وهل ثم تفصيلٌ بين المعدول عنه لمصلحة راجحة أو لمجيء وحي أو لصواب في خلافه ؟ وهل ثم تفصيلٌ بين المُحَال عنه بشرعيٍّ أو حسيٍّ ، وهل وهل ؟
كل هذا في كلمة واحدة في الحديث : «لقد هممتُ .... » ، فما بالك بما يرد على ذهنه في بقية كلمات الحديث ؟!!
ثم إذا أجبت عن هذه الأسئلة - ولا إخالك - فهل يَطَّردُ ذلك معك في بقية الفروع الفقهية من الطهارة إلى أمهات الأولاد أو ستخالف قاعدتك ؟!
نسأل الله أن يعلمنا ...
رجاء أخير : قبل أن تتعقب هذا المنشور – أخي الحبيب فضلًا – بقاعدة أصولية ، أو قاعدة فقهية ، أو قولٍ عن السلف الكرام عليهم الرضوان ، أو قولٍ لأحد أهل العلم ، برجاء تحقيق فهمه عند أهل العلم ، ولا يكون شقشقة تُرَدَّد !
والسلام ...
____________________________
*«أصول الشاشي» (ص280) ، «أصول الجصاص»( ج3/ص183) ، «كشف الأسرار عن أصول البزدوي» (ج3/ص97) .
ما حكم تشغيل القرآن في البيت طوال الوقت سواء كنت مستمعة له أو منشغلة عنه؟

ج/ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ؛

فهذا جائزٌ حسَنٌ.

وهو مما يحفظ البيتَ من الشياطين إن شاءَ الله.

أما قولُ الله سبحانه: (وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)، فقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه: أجمَعَ الناسُ على أنَّ هذه الآية في الصلاة.

أي: متعلقة بالقرآن الذي في الصلاة، وجاءٍ عن جماعةٍ من السلفِ أنها نزلت فيه كسعيد بن المسيب والحسن والزهريِّ.

فهي نحو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا قرأ فأنصتوا)، أي: وإذا قرأ الإمام في الصلاة فأنصتوا.

والله أعلم.

الشيخ محمد سالم بحيري
"الخلاصة أني أحبّ لك الإقناع إن وجدت شيخا متقنا".
الشيخ محمد سالم البحيري
تسلَّ عن الهموم فليس شيءٌ ... يُقِيمُ ولا همومُك بالمقيمة
ولا يألفُ الإنسانُ إلا نظيرَه ... وكلُّ امرئ يصبو إلى من يشاكِلُه
منهجية_التفقه_في_المذهب_الشافعي_بعلومه_العشرة،_محمد_سالم_بحيري.pdf
164.4 KB
حافظُ المذهب وصاحبُ المذهب، (منهجية التفقه في المذهب الشافعي بعلومه العشرة)

كتبه الشيخ/ محمد سالم بحيري.
مما يدلّ على علوّ كعب الفقيه: المسائل المُوَلّدة في تصنيفه، وتحرير المُدْرَك المذهبي، أمَّا استحضارُهُ لمنقول المذهب وأبحاث المتأخرين فينبغي أن يكون أدنى فضائله.
HTML Embed Code:
2024/05/12 23:36:04
Back to Top