TG Telegram Group Link
Channel: اضواء على ثورة الإمام الحسين
Back to Bottom
اضواء على ثورة الإمام الحسين pinned «وهذا هو الفهم العام بكلّ تأكيد لهذه العبارة ، من كلّ مَن جَعلَ الدنيا مبلغ علمهُ وأقصى همّه وغاية تفكيره. وهو لا شكّ يحتوي على سوء فهمٍ فضيع لهذه العبارة ، فإنّ الحسين عليه‌السلام إنّما قالها لا لأجل نفسه ، وحاشاهُ أن ينظر إلى غير الله عزّ وجل ، وهو الذي…»
الأمرُ الأوّل : طلبُ الناصر ممّن يولَد ويوجد خلال الأجيال ، ليكون مُحبّاً للحسين عليه‌السلام ، سائراً في طريقه ، مُضحيّاً في سبيل دينه بمقدار ما يقتضيه حاله ، وكلّ مَن كان كذلك في أيّ زمانٍ ومكان فقد أجاب الحسين عليه‌السلام للنُصرة.

الأمرُ الثاني : طلبُ الناصر من البشر الموجودين في ذلك العصر ، وتذكيرهم بمسؤوليّتهم الكبرى المباشرة في الذبّ عن إمامهم المعصوم عليه‌السلام أمام الله عزّ وجل ، وذلك يكون موازياً لمضمون ما وردَ من أنّ : «مَن سَمعَ واعيتنا ولم ينصُرنا أكبّه الله على مَنخرَيه في النار» (١).

الأمر الثالث : طَلبُ الناصر من الجيش المعادي الواقف أمامه في ذلك الحين ؛ وذلك لنتيجتين : لأنّهم كلّهم حين يسمعون ذلك فإمّا أن يستجيب منهم أحد أولا ، فإن لم يستجب كان هذا النداء حُجّة عليه وقهراً له في الآخرة ، وتركيزاً لأهميّة عقابه ، وإن استجاب بعضهم كان ذلك النداء رحمةً له وسبباً لتوبته وهدايته ، كما تابَ الحرّ الرياحي رضوان الله عليه ساعتئذ ، وأثّر هذا النداء في نفسه تأثيره الصحيح (٢).

ويكفينا أن نتصوّر : لو أنّ عدداً مهمّاً من الجيش المُعادي قد التحقَ بالحسين عليه‌السلام ، أو التحقَ الجيش كلّه ، كيف سيكون حال التاريخ الإسلامي عندئذٍ؟ ولكنّهم على أيّ حال لم يكونوا يستحقّون التوبة ولا الرجوع عن الحوبة (قبّحهم الله).

ولا ينبغي أن يخطر على البال : أنّه من خطل القول طلبُ النصرة من الأعداء مباشرة ، ولم يحصل مثل ذلك خلال التاريخ البشري.

وجوابهُ : إنّ ذلك مُنطلِق من عدّة أُسس ، ولا يمكن أن تكون موجودة في غير الحسين عليه‌السلام :

الأساسُ الأوّل : إنّهم جميعاً يعلمونَ شأنهُ العظيم وقُربه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفاطمة الزهراء ، وإنّه سيّد شباب أهل الجنّة وغير ذلك ممّا لا يخفاهم أجمعين.
الأساسُ الثاني : إنّ التعاليم العسكريّة في ذلك الحين لم تكن مُتزمّتة وصارمة ودقيقة مثلَ ما عليه هذا اليوم ، بل كان كلّ فردٍ من الجيش لهُ رأيهُ وتفكيره وتصرّفه كشخصٍ اعتيادي تماماً. ومن هنا أمكنَ للحسين عليه‌السلام أن يتكلّم معهم كأفرادٍ أو كبشرٍ بغضّ النظر عن موقفهم العسكري.

الأساسُ الثالث : إنّ عامّة هؤلاء الموجودين ضدّه ليسوا أعداءً له بأشخاصهم ، بل العدوّ الحقيقي ليس إلاّ الحاكم الأموي ، ثُمّ المأمورون الأساسيّون في الجيش : كعُبيد الله بن زياد الذي كان حاكم الكوفة يومئذ ، وعُمر بن سعد الذي كان القائد العام للجيش المعادي للحسين عليه‌السلام وأضرابهم.

أمّا الباقون ، فهم مجلوبون بأسبابٍ عديدة : أهمّها الخوف والطمع وليسوا أعداءً حقيقيين ، ولذا قال قائلهم : قلوبُنا معك وسيوفنا عليك (١) ، ولذا صحّ للإمام الحسين عليه‌السلام طلب النُصرة منهم لأجل مصلحتهم لعلّهم يتوبون أو يذّكرون
السؤالُ الثاني : هل كان الإمام الحسين عليه‌السلام يُدافع عن عصبيّة أو عنصريّة من : عشيرة ، أو جنس ، أو لغة ، أو غير ذلك ، أو كان يختصّ دفاعه إلى جانب الدين الحنيف؟

ولعلّ هناك من محبّيه وأعدائه على السواء ، مَن يعتقد أنّه كان يدافع عن عنصريّة أو قَبليّة ، وحاشاه ، ومن هنا جاء أمثال قول الشاعر :

قوّضي (٢) يا خيام عَليا نزار

فلقد قوّض العماد الرفيع

واملئي العين يا أُميّة نوماً

فحسينٌ على الصعيد صَريع (٣)

وهو واضحٌ بأنّ الحرب كان بين (نزار) المتمثّل بالحسين عليه‌السلام ، و (أُميّة
المتمثّل بيزيد بن معاوية. إذاً ، فالحربُ قبليّة وعنصريّة وليست دينيّة. ونلاحظ مع شديد الأسف : أنّ هذا الشاعر يشعر أنّه مُحبّ للحسين ، وأنّه مُدافع عن قضيّته ، وأنّه ممّن يُثير الأسى من أجله ، هكذا بالباطل تماماً مع شديد الأسف ، فالبكاء ينبغي أن يكون على اعتقاد هذا الشاعر قبل أن يكون على مقتل الحسين عليه‌السلام.

مع أنّه لا يوجد على الإطلاق في التصريحات التي قالها الحسين عليه‌السلام وأصحابه قبل الواقعة أو فيها ، ما يدلّ على ذلك أو ما يُشمّ منهُ ذلك من قريبٍ أو بعيد ، يكفينا الآن أنّنا نتحدّى أيّ واحدٍ من البشر أن يأتينا بنقلٍ موثوق واحد عنهم رضوان الله عليهم ، دالٌ على ثبوت هذه العصبيّة في نفوسهم ، فإذا لم يأتنا أحد بذلك كفى ذلك حُجّة على ما نقول.

وأمّا في هذه العُجالة ، فينبغي أن نستدلّ ببعض النصوص الدالّة على أنّ الدفاع كان عن الدين وعن شريعة سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله
مضافاً إلى وضوح هذه الفكرة ، وهي : أنّهم لو كانوا يدافعون عن عصبيّة أو قَبليّة ، لمَا كانت لهم جنّة ، ولذَهبوا إلى النار جميعاً ، ولمَا أيّدهم وبكى من أجلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمير المؤمنين ، وفاطمة الزهراء ، وزين العابدين ، والإمام الرضا وغيرهم من أولياء الله ، فتأييدهم لهم دليلٌ قطعي على صحّة هدفهم وقصدهم في شهادتهم تلك ، مضافاً إلى ما ننقل الآن من بعض تصريحاتهم :

أنشدَ الحسين عليه‌السلام خلال بعض حَملاته :

أنا الحُسينُ بن علي

آليتُ أن لا أنثَني

أحمي عيالات أبي

أمضي على دين النبي (١)

وحمايتهُ للعيال على القاعدة ؛ لأنّه مسؤول عن حمايتهم من الأعداء ما دام
حيّاً ، وهم : نساء ، وأطفال عُزّل ، وليس هذا من باب التعصّب.

وأنشدَ عليّ بن الحسين الأكبر في بعض حَملاته ضدّ الأعداء :

أنا عليّ بن الحسين بن علي

نحنُ وبيت الله أولى بالنبي

واللهُ لا يحكمُ فينا ابنُ الدَعي

أطعنُكم بالرُمح حتّى ينثني

أضربُكم بالسيف أحمي عن أبي

ضربَ غُلامٍ هاشميٍّ عَلوي (١)

وكونهُ هاشميّاً لا يعني كونها قضيّة يجب الدفاع عنها ؛ وإنّما الهاشميّون متّصفون بصفات خاصّة محجوبة عن غيرهم ، كالعزّة الاجتماعيّة والشجاعة والخبرة في فنون الحرب.

كما أنشدَ العبّاس بن عليّ عدّة مرّات في حَملاته ضدّ الأعداء منها قوله :

لا أرهبُ الموت إذا الموت زَقا (٢)

حتّى أواري في المصاليت (٣) لقى

نفسي لنفس المصطفى الطُهر وِقا

إنّي أنا العبّاس أغدو بالسِقا

وأخافُ الموت يوم الملتقى (٤)

وقولهُ بعد قَطع يمينه :

والله إن قَطعتموا يميني

إنّي أُحامي أبداً عن ديني

وعن إمامٍ صادق اليقين

نجل النبيّ الطاهر الأمين
يا نفسُ لا تَخشي من الكُفّار

وابشري برحمةِ الجبّارِ

مع النبيّ المصطفى المُختار

قد قَطعوا ببَغيهم يَساري

فاصلِهم يا ربّ حرّ النار (١)

وقولهُ (سلام الله عليه) عند إعراضه عن شُرب الماء :

يا نفسُ من بعد الحسين هوني

وبعدهُ لا كنتِ أن تكوني

هذا حسينٌ واردَ المنون (٢)

وتشربينَ باردَ المعينِ

تالله ما هذا فعالُ ديني
اضواء على ثورة الإمام الحسين pinned «مضافاً إلى وضوح هذه الفكرة ، وهي : أنّهم لو كانوا يدافعون عن عصبيّة أو قَبليّة ، لمَا كانت لهم جنّة ، ولذَهبوا إلى النار جميعاً ، ولمَا أيّدهم وبكى من أجلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمير المؤمنين ، وفاطمة الزهراء ، وزين العابدين ، والإمام الرضا وغيرهم…»
وخَطب زُهير بن القَين (رضوان الله عليه) (٤) ، وهو أحد مُبرزي أصحاب الحسين عليه‌السلام ، وقال في خطبته : إنّ الله ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لينظر ما نحن وأنتم عاملون ، إنّا نَدعوكم إلى نصرهم وخُذلان الطاغية يزيد وعُبيد الله بن زياد (٥). وخَطب بُرير بن خضير (رضوان الله عليه) (٦) أيضاً فقال : يا معشر الناس ، إنّ الله بعثَ محمّداً بشيراً ونذيراً وداعياً
إلى الله وسراجاً منيراً ، وهذا ماءُ الفرات تقع به خنازير السواد وكلابه ، وقد حيلَ بينهُ وبين ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفجزاءُ محمّد هذا؟ (١)

وخَطبَ الحُرّ الرياحي بعد توبتهِ مخاطباً الجيش المعادي ، وقال فيما قال : يا أهل الكوفة ، لأمِّكم الهَبل والعَبْر (٢) ، إذ دعوتُم هذا العبد الصالح حتّى إذا أتاكم أسلمتموه ، وزَعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ، ثُمّ عَدوتُم عليه لتقتلوه ......... إلخ (٣
وأنشدَ وهب بن عبد الله بن خُباب الكلبي (٤) خلال حَملته بأبياتٍ يقول فيها :
إنّي زعيمٌ لكِ أمّ وهب

بالطعنِ فيهم تارةً والضَرب

ضربَ غلامٍ موقنٍ بالربّ

حتّى يَذوق القوم مرّ الحرب (١)

وأنشدَ حبيب بن مظاهر رضوان الله عليه في مثل ذلك ، وهو من مُبرزي أصحاب الحسين عليه‌السلام :

إنّي حبيب وأبي مظاهر

فارس هيجاء (٢) وحرب تسعر

أنتُم أعدُّ عدّة وأكثر

ونحنُ أوفى منكم وأصبر

ونحنُ أعلى حدّة وأظهر

حقّاً وأتقى منكم وأعذر (٣)

وأنشدَ نافع بن هلال الجَملي (٤) في مثل ذلك ، وهو أيضاً من مُبرزيهم :

إنّ الغلام اليمني الجَملي

ديني على دين حسين وعلي

أن أُقتل اليوم فهذا أملي

وذاك رأيي وأُلاقي عملي (٥)

وأنشدَ جون (٦) مولى أبي ذر الغفاري وهو عبد أسود :
كيف يرى الكفّار ضرب الأسود

بالسيف ضرباً عن بني محمّد

أذبُّ عنهم باللسان واليد

أرجو به الجنّة يوم المَورد (١)

وأنشدَ عمرو بن جنادة (٢) في مثل ذلك :

أميري حُسينٌ ونِعمَ الأمير

سرور فؤاد البشير النذير

عليٌّ وفاطمة والداه

فهل تعلمونَ لهُ من نظير

لهُ طلعةٌ مثل شمس الضُحى

لهُ غُرّة (٣) مثل بدر منير (٤)

وأنشدَ الحجّاج بن مسروق الجعفي (٥) :

أقدِم حسين هادياً مهديّاً

اليوم ألقى جدّك النبيّا

ثُمّ أباكَ ذا الندى (٦) عليّا

ذاكَ الذي نعرفهُ الوصيّا (٧)

إلى غير ذلك من النصوص ، وفيما نقلناهُ الكفاية لوضوح الفكرة ، وهو تسالم الحسين عليه‌السلام وأصحابه على خدمة الدين ونصر سيّد المرسلين.
هذا ، وينبغي أن نلتفت إلى أنّ مَقصد هذا المعسكر الشريف وإن كان كذلك ، إلاّ أنّ مقصد المعسكر المعادي لا نُبرّؤهُ من كلّ عنوانٍ زائف وقصدٍ دنيوي هزيل ، بما فيها العصبيّة والعنصريّة والتعصّب الأعمى ، حتّى لعلّ المُعاندين منهم كانوا ينظرون إلى الحسين عليه‌السلام بهذه الصفة وحاشاه.

السؤالُ الثالث : من الأسئلة العامّة حول الحسين عليه‌السلام : هل حَصل للحسين وأصحابه الذلّ والمهانة في واقعة كربلاء؟

هناك بلا شكّ مَن يعتقد ذلك على أيّ حالٍ ، ومنه جاء قول الشاعر :

ويصيح وآ ذلاّه أين عشيرتي

وسُراة قومي أين أهل ودادي (١)

وحاشاهُ (سلام الله عليه) وليس هذا إلاّ من الكذب على المعصومين (سلام الله عليهم) ، فيكون من أشدّ المُحرّمات ، بل هو لا ينوي ذلك في قلبه فضلاً عن أن يقوله أو أن يصيح به ، كما يَزعم هذا الشاعر. وفي مقابله قول الشاعر :

فأبى أن يعيش إلاّ عزيزاً أو

تجلّي الكفاح وهو صريع (٢)

بل القول بالذّلة مُخالف للقرآن الكريم الذي يقول : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) ، والحسين عليه‌السلام كان في زمانه ولا زال إماماً وأَولَى المؤمنين بصفات الإيمان ، ومن هنا جاء قوله عليه‌السلام في بعض خُطبه
ذاكراً طلب الحاكم الأموي للبيعة : «ألا إنّ الدّعي ابن الدّعي قد رَكز بين اثنتين : بين السِلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحُجورٍ طابت وأرحامٍ طهُرت على أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» (١).

وهو واضحٌ جدّاً بالاعتزاز بالإيمان والصمود في جانب الحقّ ، وليس هذا من التكبّر الباطل في شيء ، وإنّما هو الاعتزاز بالله ورسوله ، حسبُنا أن نسمع قوله : «مَن أراد عزّاً بلا عشيرة ، وهيبة من غير سلطان ، وغنى من غير مال ، وطاعة من غير بذل ، فليتحوّل من ذلّ معصيته إلى عزّ طاعته ؛ فإنّهُ يجد ذلك» (٢).

وكذلك قوله : «فأولياؤه بعزّته يعتزّون» (٣) ، وليس لهم كبرياء مستقلّة عن كبرياء الله عزّ وجل ، ولا شكّ أنّ الحُسين وأصحابه من خيرة مَن يكون مصداقاً وتطبيقاً لهذه النصوص.

بل هو العزيز في الدنيا والآخرة ، أمّا في الدنيا فلصموده وصبره ، وأمّا في الآخرة فللمقامات العُليا التي ينالها بالشهادة.

نعم ، لا شكّ أنّ المعسكر المعادي وقادته أرادوا إذلاله وحاولوا إهانته ، وهذا أكيد ، إلاّ أنّ شيئاً من ذلك لم يحصل ؛ لأنّ الذلّة الحقيقيّة إنّما تحصل لو حَصلت المبايعة للحاكم الأموي والخضوع له ، تلك هي الذلّة التي تجنّبها الحسين عليه‌السلام بكلّ جهده وضحّى ضدّها بنفسه ، وأمّا الصمود في ساحة القتال فلن يكون ذلّة ، لا في نظر أصدقائه ، ولا في نظر أعدائه ، ولا في نظر ربّه جلّ جلاله


نكمل لاحقا بعون الله
وهنا قد يخطر في البال : أنّ قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ) (١) دالٌ على حصول الذلّة لجيش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في واقعة بدر.

وإذا صحّ وصف جيش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك صحّ وصف غيره بطريق أولى ، فلماذا نتحاشى عن وصف الحسين وجيشه بالذلّة؟

وجوابهُ : أنّ الآية الكريمة غير دالّة أصلاً على ثبوت الذلّة بمعنى المهانة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجيشه ، ولو دلّت على ذلك لوجبَ تأويلها بما يناسب الحال ، شأنها في ذلك شأن الظواهر القرآنيّة التي دلّ الدليل على عدم إمكان التعبّد بمظاهرها ، وذلك من وجوه :

الوجهُ الأوّل : إنّ المنظور هو الذلّة بالمعنى العرفي ، يعني أنّ الانطباع هو ذلك بغضّ النظر عن الإحساس به ، وذلك مثل قوله تعالى :

(وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ) (٢) ، وهذا تعبيرٌ عن انطباع معيّن يمكن التعبير عنه بالذلّة مجازاً ، بعد النظر إلى قلّة المسلمين وضعفهم تجاه عدد الكفّار وعدّتهم وجبروتهم
الوجهُ الثاني : إنّ المنظور في الآية الكريمة هو الذلّة لولا العناية الإلهيّة ، وبالاستقلال عنها ، وإلاّ فمن غير المحتمل حصول الذلّة مع وجود تلك العناية ، ولا شكّ أنّ تلك العناية موجودة باستمرارٍ مع طرف الحقّ ، سواء كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الحسين عليه‌السلام ، أو أيّ شخصٍ آخر مهم دينيّاً أو إلهيّاً
الوجهُ الثالث : إنّ الآية الكريمة وإن صرّحت بالذلّة ، إلاّ أنّها لم تُصرِّح بمَن يكونون أذلاّء أمامهُ ، فلو تصوّرنا أنّهم أذلاّء أمام الأعداء ، لوردَ الإشكال ، ولكن يمكن أن نفهم أنّ المراد كونهم أذلاّء أمامَ الله عزّ وجل.

ونجعل التبشير بالنصر كقرينة متّصلة على ذلك يعني : أنّه جلّ جلالهُ إنّما نَصرهم ؛ لأنّهم كانوا أذلاّء أمامهُ وخاشعين له ومتوسّلين به.

إذاً ، فالآية الكريمة لا تدلّ بحالٍ على تحقق الذلّة الفعليّة لطرف الحقّ أينما كان ، ولو دلّت على ذلك لتعارَضت مع الآيات الأخرى جزماً ، كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (١) ، فتكون هذه الآيات أَولَى بالصحّة ، ويكون من الواجب تأويل تلك الآية الكريمة ، وإذا تنزّلنا جَدلاً عن التأويل ، أمكنَ تساقط دلالتها مع دلالة الآيات الأخرى ، ومعهُ لا يبقى دليل على وجود الذلّة
السؤالُ الرابع : هل اهتمّ الإمام الحسين عليه‌السلام بعياله؟

هذا ما يؤكِّد عليه الخطباء الحسينيّون كثيراً ، ولكنّني أعتقد أنّه أمر لا ينبغي المبالغة فيه إطلاقاً ، بل يجب أخذهُ من أقلّ زاوية وأضيق نطاق.

فإنّه عليه‌السلام لو أرادَ الاهتمام الحقيقي بعياله كما يعتني أهل الدنيا بعوائلهم ويحرصون عليه ، إذاً لكانَ الأَولَى به أن يعمل أحد أمور :

أوّلاً : أن يُبايع الحاكم الأموي لينال الدنيا وأموالها وزخارفها ويرتاح هو وأهله وعياله فيها خير راحة ، بغضّ النظر عن الآخرة ، أعوذ بالله من ذلك.

ثانياً : إن كان هو يريد عدم البيعة فليخرج بهم إلى اليمن أو غيرها من بلاد الله ، ليكونوا سُعداء مرتاحين هناك
ثالثاً : إن كان لا يريد ذلك فليتحمّل القتل في المدينة المنوّرة ، ولا حاجة إلى أن يخرج إلى العراق ، لكي يكون هو المقتول ولا يكون على عياله بأس ، وقد وردَ عنه : «إنّ القوم إنّما يطلبونني ، ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري» (١).

رابعاً : إن كان يريد الخروج إلى الكوفة ، فليَدَع عياله في المدينة مرتاحين في طيب العيش ، حتّى يصل إليهم تارةً أخرى ، أو يصل إليهم خبر مقتله.

وهنا قد يخطر بالبال : أنّهُ أخذَ عيالهُ معه لأجل قيامهنّ بالخَدَمات الاعتياديّة في الأسرة : كتقديم الطعام ، وغَسل الثياب.

وجوابهُ : إنّ هذا من خطل القول ؛ فإنّ هذه المهمّة ممكن أن تكون موكولة إلى بعض الرجال المرافقين له ، كما يمكن استئجار نساء اعتياديّات يقُمنَ بها ، ولا تكون هذه المهمّة مبرِّراً لاصطحاب النساء الجليلات معهُ كزوجاته ، وبناته ، وأخته ، وغيرهنّ من الهاشميات. إذاً ، فتعريضهُ لهنّ للتعب والسهر أوّلاً ، وللسبي ثانياً ؛ إطاعة لله عزّ وجل حين قال (ع) : «شاءَ الله أن يراهنّ سبايا على أقتاب المطايا» (٢). ولكثيرٍ من المصاعب الأخرى ، دليلٌ صريح على أنّهُ عليه‌السلام لم يهتمّ بهم الاهتمام الدنيوي المتوقّع من أيّ واحد من أهل الدنيا ، أمّا أنّهُ عليه‌السلام لماذا أخذَ عيالهُ معه؟ فهذا ما سنُجيب عليه في سؤالٍ آت.
نعم ، ينحصر الاهتمام بالعيال بمقدار الضرورة ، وقد فعلَ ذلك سلام الله عليه ؛ وذلك أنّه هو المسؤول الحقيقي والرئيسي عنهم أمام الله سبحانه ، فلا يمكنهُ التخلّي عن وظيفته الشرعيّة تجاههم ، وذلك في عدّة أمور :

______
الأمرُ الأوّل : حمايةُ العيال عن الأعداء ما دام حيّاً ، ولذا وردَ عنه :

أحمي عيالات أبي

أمضي على دين النبي (١)

وقد وردَ عنه أيضاً مُخاطباً الجيش المعادي : «أنا الذي أُقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهنّ جُناح ، فامنَعوا جهّالكم وعُتاتكم عن التعرّض لحَرَمي ما دُمتُ حيّاً» (٢) ، إذاً فهو عمليّاً كان يُفديهم بنفسه.

الأمرُ الثاني : الاعتناء بشؤونهم بعد وفاته. ومن هنا وردَ أنّهُ أوصى إلى أخته الحوراء زينب بنت أمير المؤمنين عليه‌السلام أن تقوم بهذه المهمّة ، حين كان ولدهُ الإمام السجّاد عليه‌السلام لا يستطيع أن يقوم بشيء (٣) ، وقد قامت سلام الله عليها بمهمّتها خير قيام.

الأمرُ الثالث : العناية الدينيّة بهم في الدنيا والآخرة ، وخاصّة وهو يعلم أنّهم مُقبلون على بلاءٍ لا يكادون يطيقونه ، وهو حالهم بعد مقتله عليه‌السلام ومن هنا وردت بعض التعليمات عنه ، ولعلّ لهُ تعليمات كثيرة لم تُنقل في التاريخ ، فمن ذلك قوله عليه‌السلام : «يا أخيّة ، أُقسِم عليكِ فأبري قَسَمي لا تخمشي عليّ وجهاً ، ولا تشقّي عليّ جيباً ، ولا تَدعي بعدي بالويل والثبور إذا أنا هلكتُ» (٤).

وهذا ، ومع ذلك يبقى السؤال المهم عن العيال ، وهو إنّه عليه‌السلام لماذا أخذهم معه؟ أو قل : لماذا شاء الله أن يراهنّ سبايا على أقتاب المطايا؟ كما ورد عنه عليه‌السلام ، وهذا ما نجيب عليه ضمن السؤال الآتي :
السؤالُ الخامس : لماذا أخذ عيالهُ معه؟

______
وجوابهُ : إنّنا في حدود تصوّرنا الممكن لنا ، يمكننا أن نحدِّد ونُعدّد عدّة مصالحة حقيقيّة ومهمّة لذلك ، نوجزها فيما يلي :

أوّلاً : إنّهُ أخذَهم امتثالاً لأمر الله سبحانه ؛ لأنّه هو الذي أمرَه بذلك.

وهذا صحيح أكيداً ، ومن شواهد تلك العبارة الواردة : «شاء الله أن يراهنّ سبايا» ، ولكنّنا إذا أردنا الغرض من الحكمة الإلهيّة في ذلك ، وإنّ الله سبحانه لماذا أمرهُ بذلك ، لم نجد في هذا السبب وجهاً كافياً ، فنعود إلى الوجوه الأخرى التالية.

ثانياً : إنّه أخذهم معهُ ليشاركوه في نيل الثواب العظيم المذخور لشهداء كربلاء ، كلّ منهم بمقدار استحقاقه ، فلماذا يكون الثواب حكراً على الرجال دون النساء ، ولماذا يكون له منه حصّة الأسد ويُحرم الباقون ، بل الثواب ينبغي أن يوزّع على أوسع نطاق ممكن؟ وهكذا كان.

ثالثاً : إنّهم جاءوا معهُ بطلبٍ منهم (١) ، وقد استجابَ لطلبهم فأخذهم معه. وقد جاء هذا الطلب حُبّاً لهُ وشوقاً إليه واستيحاشاً من فراقه ، وليس كلّ ذلك أمراً دنيوياً فحسب ، بل هو كذلك بصفته إمامهم وقائدهم ووليّ الله بينهم ، مضافاً إلى توقّعهم نيل الثواب معه ، كما أشرنا في الوجه السابق.
اضواء على ثورة الإمام الحسين pinned «السؤالُ الخامس : لماذا أخذ عيالهُ معه؟ ______ وجوابهُ : إنّنا في حدود تصوّرنا الممكن لنا ، يمكننا أن نحدِّد ونُعدّد عدّة مصالحة حقيقيّة ومهمّة لذلك ، نوجزها فيما يلي : أوّلاً : إنّهُ أخذَهم امتثالاً لأمر الله سبحانه ؛ لأنّه هو الذي أمرَه بذلك. وهذا صحيح…»
رابعاً : إنّهم جاءوا معهُ أو إنّه أخذَهم معه ، بحسب الحكمة الإلهيّة ليُكملوا ثورة الحسين بعد مقتله ، كما حصلَ ذلك على أفضل وجه ، وذلك بأن يكونوا ناطقين أمامَ المجتمع بأهداف الحسين وأهميّة مقتله والإزراء بأعدائه ، ويمارسوا الإعلام الواسع حينما لا يكون الرجال قادرين على ذلك بعد موتهم واستئصالهم
وهذا الإعلام كان ضروريّاً للمجتمع تماماً ، وإلاّ لذَهبت حركة الحسين عليه‌السلام في طيّ النسيان والكتمان ، ولمَا أثّرت أثرها البليغ في مستقبل الدهر ، فكان من الضروري في الحكمة الإلهيّة وجود النساء معهُ لكي يُعبّرنَ عن الحسين ويُدافعنَ عنه بعد مقتله ، ومن هنا «شاء الله أن يراهنّ سبايا» ؛ لأنّ هذا السبي دليل عملي قاطع على فضاضة أعدائهم وما يتّصفون به من القسوة واللؤم وعدم العناية بالدين ، وهذا وحدهُ يكفي للإعلام إلى مصلحة الحسين عليه‌السلام فضلاً عن غيره.

وهذا التعريف المتأخِّر عن ثورة الحسين عليه‌السلام ليس لأجل مصلحة الحسين نفسه ، ولا لمصلحة أصحابه المستشهدين معه ؛ لأنّهم نالوا بالشهادة ما رزقهم الله جلّ جلاله من المقامات العالية في الدار الآخرة ، وإنّما هذا الإعلام أرادهُ الله سبحانه لأجل الناس وهداية المجتمع ، فما يقال : من أنّه إكمال لثورة الحسين عليه‌السلام يراد به الجانب الظاهري في الدنيا ، لا الجانب الباطني في الآخرة.

وهذا التعريف كما يصلح أن يكون تبكيتاً (*) وفضحاً لأعداء الحسين عليه‌السلام في كلّ جيل ، ورَدعاً عن التفكير في مثل هذه الجريمة النكراء لكلّ حاكمٍ ظالم على مدى التاريخ.

كذلك يصلح لهداية الناس نحو الحسين ، وبالتالي نحو دين الله عزّ وجل ، ونحو أهداف الحسين الإلهيّة ، وبالتالي نحو طاعة الله عزّ وجل والتربية الصالحة في إطاعة الدين وعصيان الشهوات والتمرّد على كلّ ظلمٍ وفساد ، سواء كان في المجتمع أو في النفس الأمّارة بالسوء.

فهذا هو الجواب على السؤال الرئيسي الرابع : هل اهتمّ الحسين عليه‌السلام بعياله؟
السؤال السادس : هل اغتمَّ الحسين عليه‌السلام وحَزنَ لوقوع هذا البلاء العظيم عليه وعلى أهل بيته وأصحابه؟

لعلّ من الواضح الجواب بالنفي ؛ لعدّة اعتبارات :

منها : إنّ الحُزن والبكاء فيه إشعار بالاعتراض على الله سبحانه وحاشاه. ومنها : ما ذكرناه فيما سبق من أنّ للشهادة في سبيل الله جانبان : أهمّهما الاستبشار برحمة الله ولطفه ، واستشهدنا على ذلك بعدّة نصوص سابقة.

وأمّا الحُزن والبكاء المطلوب من مُحبّي الحسين عليه‌السلام في الشريعة ؛ فلأنّ تكليفه عليه‌السلام يختلف عن تكليفنا ، وتقديره غير تقديرنا ، ونظرهُ إلى الأمر غير نظرنا.

أمّا البكاء والحزن ، فهو لنا لأجل تربيتنا دينيّاً وثوابنا أخرويّاً ، وأمّا الاستبشار ، فلهُ ولأصحابه لأجل الشعور بالسعادة بنِعَم الله ورحمته.

وكلّما ازدادَ البلاء كان أكثر نعمة ورحمة كما سُئل صلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن أشدّ الناس بلاءً في الدنيا؟ قال : «النبيّون ، ثُمّ الأمثل فالأمثل» (١) ، ووردَ ما مضمونه أنّه : لولا إلحاح المؤمنين على الله في طلب الرزق ، لَنَقلهم من الحالة التي هم فيها إلى حالٍ أضيَق منها (٢) ، لمدى ما يريد أن يعطيه من الثواب إلى غير ذلك من النصوص.

ومن علامات ما قلناه : ما وردَ عن عليّ بن الحسين الأكبر أنّه قال لأبيه الحسين عليه‌السلام وهو في الرمق الأخير : هذا جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأُ بعدها أبداً (٣).
اضواء على ثورة الإمام الحسين pinned «السؤال السادس : هل اغتمَّ الحسين عليه‌السلام وحَزنَ لوقوع هذا البلاء العظيم عليه وعلى أهل بيته وأصحابه؟ لعلّ من الواضح الجواب بالنفي ؛ لعدّة اعتبارات : منها : إنّ الحُزن والبكاء فيه إشعار بالاعتراض على الله سبحانه وحاشاه. ومنها : ما ذكرناه فيما سبق من أنّ…»
ومن دلائل ذلك : أنّه وردَ عن العديد من الناس في التاريخ ، أنّهم كانوا يدعون الله عزّ وجل للحصول على الشهادة ، ثمّ يشكرونه حين يجدون أنفسهم عندها ، فكيف الحال في الحسين وأصحابه وأهل بيته ومقدار إدراكهم لذلك.

ومن دلائل ذلك أيضاً : ما وردَ عن أنّه عليه‌السلام كشفَ لأصحابه وأهل بيته ـ بعد أن اختبرهم وأحرز إخلاصهم ـ وأراهم مواقعهم في الجنّة ليلة مقتلهم (١) ، فهشّت نفوسهم إليها ورَغبت بها ، فكانوا فَرحين مستبشرين لذلك ، وهذا معنى ما سمعناهُ من قول أحدهم : ليس بيننا وبين أن نُعانق الحور العين إلاّ أن يَميل علينا هؤلاء بأسيافهم (٢).

وقد يخطر في الذهن : أنّ البكاء ليس دائماً على أمور الدنيا ، بل له مبرِّرات عديدة ممّا هو صحيح دينيّاً ، نذكر منها ما يلي :

أوّلاً : البكاء من الذنوب.

ثانياً : البكاء شوقاً إلى الثواب.

ثالثاً : البكاء خوفاً من العقاب.

رابعاً : البكاء لأجل قلّة الصبر على البلاء.

خامساً : البكاء لأجل إقامة الحجّة على الخصوم.
HTML Embed Code:
2024/05/01 21:54:52
Back to Top