أراد زوجُ عزَّةَ أنْ يَحُجَّ بها؛ فسمع كثيّر الخبر فقال: والله لأحجنَّ لعلي أفوز من عزة بنظرة.. قال: فبينما الناسُ في الطوافِ إذْ نظرَ كثير لعزة وقد مضت إلى جمَلِه، فحيَّتْه ومسحت بين عينيه، وقالت له: حُيِّيتَ يا جمل. فبادرَ كُثيّر لِيَلْحَقها ففاتته، فوقف على الجملِ وقال:
حيتّكَ عزَّةُ بعدَ الحجِّ وانصرفتْ
فحيِّ -ويْحَكَ- من حيّاكَ يا جملُ
لو كنتَ حيّيْتَها ما كُنْتَ ذا سرَفٍ
عندي ولا مسّكَ الإدلاجُ والعملُ
قال: فسمعه الفرزدق فتبسم وقال له: من تكون يرحمك الله.
قال: أنا كثيّر عزة، فمن أنت يرحمك الله؟ قال:
أنا الفرزدق بن غالب التميمي، قال: أنت القائل:
رحلت جمالهُمُ بكلِّ أسيلة
تركت فؤادي هائمًا مخبولا
لو كنت أملكهم إذا لم يرحلوا
حتى أودّعَ قلبيَ المتبولا
ساروا بقلبي في الحدوجِ وغادروا
جسمي يعالجُ زفرةً وعويلا
فقال الفرزدق: نعم،
فقال كثير: والله لولا إني بالبيت الحرام لأصيحنّ صيحةً أُفزِعُ هشامَ بن عبد الملك وهو على سرير ملكه، فقال الفرزدق: والله لأُعرّفنَّ بذلك هشاما، ثم توادعا وافترقا، فلما وصل الفرزدق إلى دمشق دخل إلى هشام بن عبد الملك فعرّفه بما اتفق له مع كثير، فقال له: اكتب إليه بالحضور عندنا لنطلق عزة من زوجها ونزوجه إياها، فكتب إليه بذلك؛ فخرجَ كثير يريد دمشق، فلما خرج من حَيِّهِ وسار قليلًا؛ رأى غُرابا على بانةوهو يفلي نفسه وريشه يتساقط، فاصفَرَّ لونُه وارتاع من ذلك وجدّ في السير، ثم إنه مال ليسقي راحلته من حي بني فهد، وهم زجَرةُ الطير، فبَصُرَ به شيخٌ من الحيِّ فقال: يا ابن أخي أرأيت في طريقك شيئا فراعك؟ قال: نعم رأيتُ غرابًا على بانةٍ يتَفَلّى وينتف ريشه، فقال له الشيخ: أما الغراب فإنه اغتراب والبانة بين والتفلي فرقة، فازداد كثير حزنا على حزنه لما سمع من الشيخ هذا الكلام وجدّ في السير إلى أن وصل إلى دمشق ودخل من أحد أبوابها فرأى الناس يصلون على جنازة فنزل وصلى معهم، فلما قُضِيَتِ الصلاةُ صاحَ صائحٌ: لا إله إلا الله، ما أغفلك يا كثيّر عن هذا اليوم، فقال: ما هذا اليوم يا سيدي؟ فقال: إنَّ هذه عزة قد ماتت وهذه جنازتها، فخَرَّ مغشيًّا عليه، فلما أفاق أنشأ يقول:
فما أعرفُ الفهديّ لا درَّ درُّه
وأزجرَهُ للطيْرِ لا عزَّ ناصرُهْ
رأيتُ غُرابًا قد علا فوقَ بانةٍ
يُنَتِّفُ أعلى ريشَهُ ويُطايُرهْ
فقال غرابٌ واغترابٌ من النوى
وبانَةُ بيْنٍ من حبيبٍ تعاشِرُهْ
ثم شهق شهقة فارقت روحه الدنيا، ومات من ساعته، ودفن مع عزة في يومٍ واحد.
- 📖 المستطرف
ٖ
>>Click here to continue<<