"حين صمتت الجدران ٢"
بدا عليه الفزع حين لمح ظلّه يسبقه بالحركة، ارتبك، ثم راح يتبعه بخطى مرتعشة، كان يحمل شعورًا خانقًا، مزيجًا من الذهول واللهفة، كأن صدره لا يتسع له.
اختفى الظل فجأة، فتسارعت أنفاسه، وراح يفتّش الغرفة بعينٍ تبحث عن معنى، حتى توقف أمام رف صغير، فتحه بتردد، ليصطدم بدفتر مذكرات يشبه دفتره، لا بل هو ذاته، الخط، التوقيع، الحروف التي تُشبهه أكثر مما يُشبه نفسه.
قرأ وكأنه يشاهد ذاكرته تتنفس، كل جملة تنبض به، كأن"الديجاڤو" أصبحت حياة كاملة يكررها، لكنه لا يتذكرها، السؤال الذي طحن رأسه كان واحدًا: كيف وصلت هذه المذكرات إلى هنا؟ وكيف نسي كل هذا؟
عاد الظل، لا مرئيًا تمامًا ولا غائبًا كليًا، كأنه يقوده نحو سر لا ينطق بل يُعاش، حتى كشف له مدخلًا خلف الجدار، غرفة سرية تتنفس الغبار، وتلفظ الحكايات، تتكدّس الصور والمذكرات، والذكريات المُسجاة على رفوف الألم.
على أول صفحة، بخطٍ لا يرتجف، كُتب: "من دخل الغرفة لا يعود كما كان، إما أن يُمحى، أو يواصل الحياة دون أن يفهم سرّها، الغرفة لا تتغيّر، بل تختار من يُشبهها."
حينها فقط، تذكّر لم تكن هذه زيارته الأولى، بل عودته، هو من اختار النسيان يومًا، أما اليوم، فقد عاد بعينٍ لا تغمض أمام الحقيقة، وقلب لا يرتجف من ماضيه.
قرأ حكايات من سبقوه، أناس يشبهونه، ندوبهم، شعورهم، الخوف يقودهم للنسيان، والغرفة كانت تشبههم جميعًا، تصرخ صامتة بتاريخ لا يُغفر.
جلس، وكتب أراد أن يبقى هذه المرة، لا جسدًا، بل أثرًا في الورق، وفجأة ظهرت جملة على الصفحة البيضاء: "ها أنت اخترت أن تُمحى!"
شعر أن الدفتر يُبتلعه، كلما كتب سطرًا، تحرر شيءٌ في داخله، وكأن الألم حين يُكتب، لا يعود يؤلم، وصف الغرفة، الظل، أنين الجدران، صدى من سبقوه، وشيئًا فشيئًا، بدأ يشعر بأنه يتلاشى، كأن ذاته تُستنزف بين السطور.
في آخر صفحة، تحوّلت الورقة إلى مرآة، رأى فيها طفولته، أحلامه ومخاوفه، سقوطه ونهوضه، وحدته، ثم نفسه، يحتضن نفسه.
ابتسم ليس لأنه انتصر، بل لأنه تذكر، وحين اختفت المرآة، اختفى معها.
في مكتبةٍ عتيقة، جلس "سهيل" يقرأ رواية بعينٍ مضطربة وقلبٍ يتسارع، كان يشعر أن هذه الحكاية تتسلل إليه من مكانٍ لا يعرفه، ابتسم بدهشة حين نظر إلى العنوان: "حين صمتت الجدران"
| أمَاني البُريهي.
>>Click here to continue<<