أحمال الكائن الثقيلة
في رواية العربانة لماهر عباس
يُقال أن الرواية الأولى لأي كاتب تنطلق من منطلقات شديدة الذاتية ، أو لنقل أنها تنبع من أخص مواطن التأثير لديه ، مما يكوّن الدافع المُلّح الذي يشحذ همته لإتمام العمل . و ربما يجب التعاطي مع هذه الرواية الأولى بنوع من التفهم مع استقراء خط الكاتب السردي المُقبل . إلا أن هذا التعاطي المتفهم لابد أن يكون موضوعيا مع ذلك .
في رواية " العربانة " للكاتب البحريني ماهر عباس نجد تلك الذاتية المؤكِدة أن الكاتب مخلص لبيئته التي حرضته على الكتابة حولها ليأخذنا بمسار – مثالي- و عبر معايير روائية واضحة و متنامية إلى الحياة في البحرين ، في الأحياء البسيطة ، و تعب الكادحين في الأسواق ، و مثابرتهم لتحصيل لقمة العيش، و تلك الصراعات مابين الأغنياء و الفقراء ، أبناء العوائل و أبناء المدمنين .
و حين أن نقول أن المعايير واضحة فذلك لأن الناص بنى عمله من خلال تنامي العناصر الروائية دون اللجوء للتجريب في التقنيات أو الاشتغال على تقديم شكل متجدد للرواية . فنجد مثلا أن كل العناصر قُدمت بصورة بسيطة متنامية . فعجلة الزمان تسير من الماضي إلى الحاضر دون اللجوء لتقنية الاسترجاع في الفصول مثلا ، و أشياء المكان أتت واضحة ما بين قرية سنابس إلى سوق جد حفص إلى الصين و العودة إلى المنامة مرة أخرى ، و شخصية عباس و هو الشاغل الأكبر للرواية أو لنقل أنه الشاغل الوحيد الذي تدور حوله الأحداث و الشخوص ظهرت في الرواية عبر خط متصاعد من طفولته الحزينة المتوارية خلف غطاء الفراش ، و خلف التناوم للتخفي عن العنف الذي يُمارسه والده المدمن على أمه ، إلى تدرجه في المراحل الدراسية و من ثم ترك التحصيل العلمي للعمل خلف العربانة في سوق جد حفص ، و عبور كل ذلك إلى كهولته ما بين الصحة و المرض و العوز و الغنى . حتى لغة الرواية قُدمت بوضوح سلس ، سيال مع الأحداث ، لغة مناسبة للغة الطفل " عباس " الذي بدأ سرد الرواية طفلا و قفلها ناضجا تكبر معه و تنضج . و أعتقد أن هذا الوضوح و التنامي المتوقع في الرواية يؤكد أنها قوامها الأساسي يرتكز بكل بساطة على الحكاية ، حكاية عباس .
رغم ذلك ، نجد أن الناص أثث الرواية بشخصيات عدة ، تشبه عباس و تؤاكل معه فقره و كدحه كشخصيات من العمالة الوافدة ، و أخرى تشذ عنه . و لعل شخصية " الوالد " تعد من أميز ما رسم الكاتب إذ قدمها بتضاريس لافتة ، حية جدا و حقيقية . فأحيانا تطفح أبوته حنانا و اهتماما و أخرى يدير ظهره لإبنيه ليواجها وحدهما قسوة الحياة و متاعب البقاء في بيت زوج الأم . أحيانا يكون الشخص الملتزم دينيا الذي يحرم على زوجته العمل خارج المنزل و أخرى يرتدي ثوب اللامبالاة و يتكرها وحيدة تستقرض من أخيها المال و السيارة . الأمر الثابت في شخصية الأب أنه متطرف في كل حالاته ، مما يجعل قربه و بعده مؤذيان على حد سواء .
هذه العمل يشبه ببساطته و وضوحه حياة الكائن ، تدرجه في مراحل النضوج و مواجهة الخيارات ، و دفع أثمانها في الكثير من الأحيان ، فتلك العربة ستبقى أمامه ، يجرها لتحمل أعباء الغير فيما يعجز هو عن إطاقة حمولته الذاتية .
>>Click here to continue<<