صناديق المعنى
ملاحقة احتمالات نص نهر النعاج لـ إستبرق أحمد
لا يجدر بقصة ما - أية قصة - أن تَشُلّ المتلقي و تُعجزه ، لكن قصة تقدّم الفكرة بأبعاد عدة ، و تهب القارئ مسارات متشعبة من أرضية جادة للفهم و هي مع ذلك تبقى في وُسع القارئ الذي يأخذ منها "العبارة" المُشكِّلة للحدث المُجرّد ، و في وسع القارئ الذي يبحث فيها عن " الإشارة " و ترشحات الباطن أيضا ، لهي قصة تستحق أن تُطارد .
في النصوص القائمة على العبارة قد نجني قدرا من المتعة و الدهشة و العِبرة ، لكن في النصوص التي تقوم على الأبعاد الممتدة نجني اكتمالا سرديا عظيم الأثر ، لأننا نبقى - أثناء فعل التلقي - في مطاردة مستمرة للتأويل ، كأننا في حضرة صناديق عدة تهبها المفردة و التركيب السردي و الحدث و المشهدية و الشخصية ، فنحصل من كل صندوق على صندوق آخر ، و هكذا ..
عندما أنهيت قراءة نص ( نهر النعاج ) لـ إستبرق أحمد تعالقت مع تلك الفِكر المبطنة ، و كانت القراءة الأولى قد أعطتني بُعدا أوليا يتمثل في الفهم المسطّح للنص ، كنتُ أمام قصة تؤول إلى قيمة جزاء الأعمال و عواقب الأمور ، مخاضات المنح و المنع، و هي في ذلك المدى قصة جميلة ملفتة ، تقوم على أرضية أسطورية ، من مُكونات سردية مُدهشة . فنجد أن الناصة اشتغلت على المُكونات بتناغم مع روح النص و أجوائه ، فالزمان متعدد يُمثّل محركا لتطور الحدث، و المكان سيد العقدة و مكمنها ، و الشخصيات مرسومة بعناية لتقتطف من المتلقي غضبا أو تعاطفا و اللغة طُرزت بما يخدم اكتمال العمل .
في القراءات الأخرى صرتُ أحصد احتمالات متعددة ، ترفتع عن أرض النص متحررة من أثقال الوجه الواحد، بأجنحة تهبها مكونات في النص نفسه : الألوان ، الأشياء ، الأرقام :
على سبيل المثال ، لم يكن عبثيا أن يتلون النهر باللون الأسود ، ففي النص نجد أن حدث البداية وَمض من نبوءة ( عارف ) و ليس ( عرّاف ) أخبر والدا مُعدما و موجوعا بهجر زوجة و صاحب عائلة و أب الشخصية المحورية عن نهر مخبوء ، يقدّم الثراء لمن يقدّم له القرابين ، و هذا قوام النص ، العلاقات المتشعبة الهائجة و النافرة من عطايا هذا النهر المراوغ ، نجد أن الناصة اختارت اللون الأسود الذي يعطي فرضيات منها :
-أنه نهر نفطي .
-أنه نهر آسن .
و رغم أن تركيب ( النهر الآسن الذي يكره أبناء التراب ) قد ورد في النص إلا أننا نقدر على تفعيل التركيب لينزح بنا إلى احتمالات متعددة .
و على صعيد الأشياء قدّم النص رمزيات متعددة ، فهل كان الأخوة الميتون هم النعاج النافقة ؟ ألم يرد في النص أن النهر قذف جثث الإخوة القرابين مفرغة العين ، بينما تعتمر وجوه النعاج - الهبات - أعين ماكرة ؟
قدمت الناصة أيضا اشتغالا على الرقم ٣ في النص ، فالأحداث الكبرى تجري في ثلاثة ليال :
-ثلاث ليال قدّم فيها الأب أولادا ثلاثة قربانا للنهر .
-ثلاث أيام ترى الشخصية المحورية أن النعاج منتفخة ترفع أطرافها للسماء .
-النص مقسّم لثلاثة أزمنة : الرحلة الأولى لموافاة النهر ، مرحلة تقديم القرابين و الأثر الفاحش للثراء ، النفوق المفجع للنعاج .
هذا الثالوث الضمني - قد - يقدّم فكرة محتملة تدور حول : الأمس و اليوم و الغد ، أو على : فكرة الفعل / الفعل / أثر الفعل .
يبقى أن هذا النص محوره الإنسان و أن ألبسته الكاتبة ثوبا رمزيا بفنية عالية ، ففيه يتعرى الكائن أمام جشعه ، و يُبرز خبايا حِيله ، و يطغى ، و يصم سمعه عن نداءات العطاء ، و يبحث عن مغفرة في قلب الأضحيات .
>>Click here to continue<<