ضاري المشبع بزاد الغربة يجد في " فرح الكويتية " عطر الوطن ، فتسيل الذكريات من مكمنها الحارق ، و يضرى جوعه للكويت ، فيسأل عن جوها و ناسها و شوارعها و حتى عن مكتبة العجيري ، فتصير الفتاة فرح رمزية للوطن الشائق و يشكل التقاء فرح و ضاري مأزق الرواية و سؤالها الموجع .
نجد أن الناصة أخذت بالقضية إلى منحى الغربة و الانتماء و إمكانية القبول بالمسارات المقررة ، و عززت الفكرة من خلال السرد اللين الطيّع و الذي ركز على هذا الجانب من قضية البدون ، فصار ضاري في ارتطام لم يسمع له دوي صوت كل هذه الشريحة المغتربة ، و لسان حالها .
ثانيا : سيل القريحة .
للشعر حالة مختلفة من التلقي ، فيبقى الشعر رهينا بمنطقة الانفعالات و همسات الخاطر ، لكني اجد في تجربة الشاعر حسن الفضلي أصدق محطة ممكن اللجوء إليها لفهم " بعض " دواخل النفس ، نحن هنا في مواجهة لمعاناة سحيقة الجذور في أرض الوجع ، و الاجتهاد الروائي يتضامن في البوح الشعري ليتكامل الطرح الأدبي للقضية .
يقول الشاعر حسن الفضلي :
مات الصبا لما وُلدت عديما
حيُّ و تحسبني الكويت رميما
كالعشب ما اخضر الربيع بعوده
حتى تصرّمه الخريف هشيما .
يعرض الشاعر معاناة الرفض و المراوحة في نقطة الصفر منذ مستهلات الوعي الأول إلى آخر رمق ، و في هذا الوجه تتشابه الحياة و الموت ، و ربيع العمر و خريفه ، دون نيل أبسط استحقاقات الحياة و بديهياتها .
و لعل أصدق بيت في قصيدة مات الصبا هو :
لا هم أُسارى يرقبون خلاصهم
أو ميتون يؤملون رحيما .
هذا حصار ، محدق ، كاتم للنفس ، خانق لشبح الأمنية ، حصار في منطقة هلامية مغيبة لا هي تشبه بهجة الحياة و لا طمأنينة الموت .
يرسم الشاعر في قصيدة تسائلكم تلك الدموع وجها آخر للمعاناة و هو وجه الغربة و الفراق ، فراق الوطن و الأحبة المغتربين الساعين لأمان الهوية ، و الهاوين في فخ وجع المنفى الأبدي :
تغرّب آبائي فخُلفت بعدهم
صغيرا تُربي خطوتي المهارب
و أبغي انتماء يبعث الطفل داخلي
و هل تُرجع الأوطان ما النفيُ سالب.
يتقاطع هذا اللون من القصائد بقصائد المهجر ، ليتذوق المتلقي طعم الحسرة في الاقتلاع من الوطن ، و كرب الفراق الملازم للشاعر ، ذلك الكرب الذي لن تُبلسمه حتى أوراق الانتماء المستعارة من وطن غريب يشعر خلاله أنه دخيل أبدي ، و تلك البعثرة التي لن ترممها أية هوية مصطنعة .
الكتابة عن قضية البدون تحمل أبعادا شاسعة ، و وجعا متراكما يُتخم الروح ، لكنه أيضا يحمّل ذاكرة الأدب رسالة بليغة ، فحين ينزف الوجع ، يشكل آمال النفس التائقة إلى وطن يعترف بها ، يحفظ تاريخها و عطاءها ، و لا يستلبها و لا يعامل حقوقها كـ ركض في في حلم مُقعد .
>>Click here to continue<<