الإنعكاس و التأويل
ملاحقة أحجية ابن أزرق في رواية حمام الدار لـ سعود السنعوسي
إنها فعلا أحجية ، رواية تبدأ من حيث تنتهي و تنتهي من حيث تبدأ ، تعتقد في بدايتها أنك ستدخل عالم رواية جميلة ترشح منها هموم الكتابة ، و مكابدات كاتب يروم إنهاء مخطوطه ، و تقرر أنك ستعاين تجربة جديدة ذات بعد روائي مركب قد لا يمت لهموم الإنسان اليومية بقدر ما يعرض قلقا خاصا ، لكنك بعد ذلك تكتشف أن الناص يُتيهك – متعمدا – في عالم روائي تجريبي لتلاحق مُمكنات الرواية و مكوناتها و تُحبس بالدهشة .
رواية حمام الدار / أحجية بن أزرق للكاتب سعود السنعوسي و الصادرة عن الدار العربية للعلوم رواية جدلية ، قد يجدها البعض مختلفة عن نِتاج الناص السابق ، و مغايرة عما يُنشر من روايات ، و بكل صدق أجدها علامة فارقة في خط سير الكاتب ، ذلك أن هذا العمل أظهر الذكاء السردي الفائق للكاتب و بيّن بجلاء عنايته بالتفاصيل و بكل كلمة و تركيب و حدث تضّمنه العمل ، و أكّد أن مامن سطر عبثي في رواية تُخايل المتلقي و تراوغه سطورها و تضطره لتكرار استنطاقها ، و أن عليك التقاط كل كلمة لتعبر إلى ما يمكن إدراكه منها .
لا أميل إلى إلصاق تهمة الصعوبة في الرواية ، و لا أستطيع القول إنها مستغلقة ، و لا أفضل أن أدعي أنها نخبوية و لشريحة خاصة ، بل أرى أن هذه الرواية قد تروق للقارئ الذي يحب التنقيب عن روح العمل باجتهاد و معاودة و تكرار ، و قد لا تروق اللقارئ الذي يبحث في كل عمل عن حبكة متسلسلة أو حكاية نافذة ، يُعزى ذلك إلى إشكالية الذوق و القبول قبل كل شيء .
1/ المكان الممتد و الزمن المحدد و التجريب:
تقوم الرواية على ركيزة الزمن بينما تشرّع أبواب المكان على فضاء أكثر اتساعا ، يصلح لأن يكون قالبا مكانيا لا تحدده بيئة ما و إن جاء ببعض أشياء المكان ، كالبيت الكبير و مكمن الغنم و المرسى و حتى أشياء الشخصيات كالعباءة و الديرم ، مما يشي ببيئة مألوفة و إن كانت قابلة للتمدد ، بينما ضيّقت الرواية خط الزمن بنحو مختلف : خمسة صباحات ، تارة تأمُّل ، و قنصة ما قبل التأمل ، و لنكون أكثر دقة نقول أن الرواية بكل أزمنتها المذكروة تُبنى على اثنتي عشرة ساعة مس فيها كاتب – في النص – ضبابي و مُحيّر و غير محدد ، شرهُ الكتابة ، ليواصل حرث الأوراق و يدلق بها كل ما يعرفه و ما لايعرفه و ما يحاصره من شخصية من شخوص نص أسماه النص اللقيط و من ثم لتنقلب عليه تلك الشخصية، و تبقى الرواية تأخذ المتلقي ليختار بكامل وعيه المهيمن بينهما ، أ يختار الكاتبَ أم الشخوص أنم يبقى في دهاليز المتاهات بينهما .
خمسة صباحات مسرودة بقالبين ، من وجهتيّ نظر ، الكاتب و الشخصية المتمردة ، و قد يظن المتلقي أن هذا ضرب من العبث و أن طبيعة الرواية_ أية رواية - لا تحتمل هذا الخروج عن المألوف في السرد ، و أن ذلك يُفقدها روح الحكاية و يشغل المتلقي بالقالب عن القلب و المضمون ، لكني وجدت أن ما قدمته رواية حمام الدار بعيد عن العبثية ، و ليس لإشغال المتلقي بالتجريب ، لأن الرواية تقدّم الحكاية لكن عبر صراع مؤثر لتعلق فكرة النص الأساسية و التي تتمحور حول : الفقد والانتظار .
فليست حمام الدار مجرد عمل تجريدي غير طاعن في قلق الكائن و معاناته ، إنما هي تغوص في تلك المعناة و لكن بنحو مختلف و ذكي .
حتى في الفصل المعنون بـ أثناء ساعة تأمل و المسرود على لسان شخصية " قطنة " و الذي يظهر كأنه فصل مُترف خارج من اعتيادية الوجع الإنساني ، حتى في هذا الفصل يقدم الناص أسئلة مقلقة حول الإذعان الإنساني للطاغية و مدى مضاء الروح في تغيير ما رُسم لها ، و ما يتكرم به المصير على الثائرين و الرافضين للخنوع .
إن مفارقة هذا العمل تظهر في تقديمه لمستوى جديد من التجريب ، فبالعادة يقودنا التجريب إلى تفهّم أن الرواية قامت على خلخلة القواعد في سبيل تطوير طبيعتها و تقديم مجموعة أخرى من الخيارات للقارئ ، فالشخصيات قد تُأوّل و تُسقط أو تنعكس ، لكن هنا في حمام الدار صار لكل شخصية تأويلا ، و تأويلا للتأويل ، و لكل حدث وجه و وجه للوجه ، و إن كنا قد اعتدنا أن تصرخ شخوص الرواية في " صانعها فلم نعتد أن تقوم شخصية ما في رواية ما بسرد وقائع حيوات المؤلف و تفاصيل أفعاله .
2/ مع الشخصيات :
لدينا في الرواية شخصيات محددة ، و لدينا إنعكاسات لها ، و سأذكر هنا الشخصيات حسب فهمي و التقاطي لتفاصيلها .
>>Click here to continue<<