TG Telegram Group & Channel
علم النفس (مقالات وأبحاث) | United States America (US)
Create: Update:

ذلك أن الأنانية البدائية، من ناحية ثانية، قاعدتها الدائمة أنها ليست أبدًا هي «أنا» التي يجب أن تتغير، بل دائما الفتى الآخر.

يحيط بالواعية الفردية بحر الخافية الغدار، ولهذه الواعية التي تخصنا مظهر الاستقرار والثقة، لكنها في الحقيقة شيء هش وتقوم على أسس قَلِقة جدًّا. وفي الغالب لا نحتاج إلى أكثر من هياج شديد حتى ينقلب ميزان الواعية الشديد الحساسية … والكنايات التي نستخدمها في كلامنا تُنبئِنا بذلك. نقول: «خرج عن طوره غضبًا»، «نسي نفسه تمامًا»، «لم أستطع التعرُّف عليه»، «عبر فيه شيطان» … إلخ، شيء يجعلك «تخرج من جلدك»، «يسوقك إلى الجنون»، حتى «لا تعود تعرف ما أنت فاعل». جميع هذه العبارات المألوفة تبين مقدار السهولة التي تتمزق بها واعيتنا الآنية بتأثير الانفعالات. ولا تتبدَّى هذه الاضطرابات في الحالات الحادة فقط؛ غالبًا ما تكون مُزمِنة ويمكنها أن تُحدِث تغييرًا دائمًا في الواعية. نتيجةً لهذا الهيجان النفسي تغوص أجزاء كاملة من وجودنا في الخافية وتتوارى عن السطح سنوات وعقودًا. والتغييرات الدائمة التي تطرأ على الشخصية ليست أمرًا غير شائع. لذلك نقول، ونحن على حق، بعد شيء من مِثل هذه الخبرة، أن شخصًا هو «إنسان مُتغيِّر». ولا تحدث هذه الأشياء لأناس من ذوي إرث رديء أو لأناس معصوبين، وإنما لأسوياء أيضًا. والاضطرابات التي تنجم عن الانفعالات نعرفها فنيًّا بأنها «ظاهرات انفصال» Phenomena of dissociation، تدل على انشطار نفسي. وفي كل نزاع نفسي يمكن أن نميز انشطارًا من هذا النوع، وقد يذهب بعيدًا حتى ليهدد بنية الواعية المبعثرة بالتفسُّخ التام.
لكن، حتى سكان الداخل، سكان العالم السوي الذين ينسون البحر، لا يعيشون على أرض ثابتة؛ فالتربة سهلة التَّفتُّت حتى إنَّ البحر يمكنه في كل لحظة أن يغمر الصدوع القارِّية ويعزلها عن محيطها. أهم «أخطار الروح»١⋆ هذه، كما تُسمَّى كذلك فنيًّا، هي «ضياع الروح»٢⋆ و«الاستحواذ»٣⋆ كلتا الظاهرتَين ظاهرة تحلل أو تفكك Dissociation. في الحالة الأولى يقول المريض: إن روحًا خرجت منه وضلت بعيدًا عنه، وفي الثانية: إن روحًا غريبة سكنته وحلت فيه، عمومًا في هيئة لا تبعث على السرور. قد تبدو هذه الطريقة من صياغة الحالة غريبة، إلا أنها تصف وصفًا دقيقًا تلك الأعراض التي ندعوها اليوم بظاهرات التفكك أو الانفصال، أو حالات قريبة من السكيزوفرانيا (= الفصام). لكنها ليست أعراضًا مَرَضية صِرفة، لأننا نجدها كذلك في الأشخاص الأسوياء؛ فقد تتخذ هيئة تقلبات في الشعور العام بالصحة، وتغيرات غير عقلية في المزاج، وانفعالات لا يمكن التنبؤ بها، وقرف مفاجئ من كل شيء، وعطالة نفسية، وهلم جرًّا. حتى الظاهرات القريبة من الفصام، التي تتطابق مع الاستحواذ البدائي، يمكن ملاحظتها في الناس الأسوياء أيضًا؛ فهؤلاء أيضًا غير معصومين من شيطان الهوى؛ وهم أيضًا مؤهَّلون لأن «يركبهم» خبال أو رذيلة أو اعتقاد أحادي؛ فهذه الأشياء جميعًا تحفر فجوة عميقة بينهم وبين الذين أحلوهم من نفوسهم المكانة الأرفع، وتخلق في نفوسهم انشطارًا أليمًا.
يشعر البدائي أن انشطار النفس شيء غير ملائم وأنه شيء مَرَضي، تمامًا كما نشعر نحن، والفرق الوحيد هو أننا نسميه نزاعًا أو نرفزة أو انهيارًا عقليًّا. الانسجام غير المنقطع بين النبات والحيوان والإنسان والله، مرموزًا إليه بالفردوس، ليس بدون هدف وضعته قصة «الكتاب المقدس» في صميم بداية كل تطور نفسي، وأعلنت أن أول انبثاق لفجر الواعية — «سوف تكونان كالآلهة، عارفين الخير والشر» — كان خطيئةً مميتة. هذا، ولا بد أن يبدو تحطيم الوحدة الإلهية للواعية التي سادت الليل الأوَّلي — لا بد إلا أن تبدو خطيئة للعقل الساذج؛ فقد كان هذا الفعل هو التمرد اللوسيفيري (الشيطاني الذي يرافق سطوع نور العقل) من قبل الفرد على الواحد. لقد كان عملًا عدائيًّا من قبل التنافر على الانسجام، وانفصالًا عن اندماج الكل بالكل. لذلك لعن الله الحيَّة قائلًا: «وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه» (تكوين ٣: ١٥).
ومع ذلك، فقد كان بلوغ الوعي أغلى ثمرة أعطتها شجرة المعرفة؛ إذ كانت السلاح السحري الذي وهب الإنسان نصرًا على الأرض، والذي نرجو أن يمنحه نصرًا بعدُ أعظمَ على نفسه.

أن يعني الوعي الفردي انفصالًا ومعارضة، إن هذا شيء خَبِرَه الإنسان مرات لا حصر لها على مدى تاريخه الطويل. وكما أن زمن الفصام للفرد هو زمن للمرض، كذلك هو في حياة الأمم. ليس يصعب علينا أن نعترف أن زمننا هذا هو زمن فصام ومرض؛ فالأحوال السياسية والاجتماعية، تُفتِّت الدين والفلسفة، المدارس المتخاصمة في الفن الحديث والسيكولوجية الحديثة كل ذلك له معنًى واحد بهذا الخصوص. ثم هل يشعر أحد عنده أدنى حس بالمسئولية بنوع من الرضا عن هذا التحوُّل في مجرى الأحداث؟ لو كنا مخلصين، لكنَّا سلمنا بأن ما من أحد يشعر بتمام الرضا في عالم اليوم، الذي ما ينفك يبعث على السخط.

3

ذلك أن الأنانية البدائية، من ناحية ثانية، قاعدتها الدائمة أنها ليست أبدًا هي «أنا» التي يجب أن تتغير، بل دائما الفتى الآخر.

يحيط بالواعية الفردية بحر الخافية الغدار، ولهذه الواعية التي تخصنا مظهر الاستقرار والثقة، لكنها في الحقيقة شيء هش وتقوم على أسس قَلِقة جدًّا. وفي الغالب لا نحتاج إلى أكثر من هياج شديد حتى ينقلب ميزان الواعية الشديد الحساسية … والكنايات التي نستخدمها في كلامنا تُنبئِنا بذلك. نقول: «خرج عن طوره غضبًا»، «نسي نفسه تمامًا»، «لم أستطع التعرُّف عليه»، «عبر فيه شيطان» … إلخ، شيء يجعلك «تخرج من جلدك»، «يسوقك إلى الجنون»، حتى «لا تعود تعرف ما أنت فاعل». جميع هذه العبارات المألوفة تبين مقدار السهولة التي تتمزق بها واعيتنا الآنية بتأثير الانفعالات. ولا تتبدَّى هذه الاضطرابات في الحالات الحادة فقط؛ غالبًا ما تكون مُزمِنة ويمكنها أن تُحدِث تغييرًا دائمًا في الواعية. نتيجةً لهذا الهيجان النفسي تغوص أجزاء كاملة من وجودنا في الخافية وتتوارى عن السطح سنوات وعقودًا. والتغييرات الدائمة التي تطرأ على الشخصية ليست أمرًا غير شائع. لذلك نقول، ونحن على حق، بعد شيء من مِثل هذه الخبرة، أن شخصًا هو «إنسان مُتغيِّر». ولا تحدث هذه الأشياء لأناس من ذوي إرث رديء أو لأناس معصوبين، وإنما لأسوياء أيضًا. والاضطرابات التي تنجم عن الانفعالات نعرفها فنيًّا بأنها «ظاهرات انفصال» Phenomena of dissociation، تدل على انشطار نفسي. وفي كل نزاع نفسي يمكن أن نميز انشطارًا من هذا النوع، وقد يذهب بعيدًا حتى ليهدد بنية الواعية المبعثرة بالتفسُّخ التام.
لكن، حتى سكان الداخل، سكان العالم السوي الذين ينسون البحر، لا يعيشون على أرض ثابتة؛ فالتربة سهلة التَّفتُّت حتى إنَّ البحر يمكنه في كل لحظة أن يغمر الصدوع القارِّية ويعزلها عن محيطها. أهم «أخطار الروح»١⋆ هذه، كما تُسمَّى كذلك فنيًّا، هي «ضياع الروح»٢⋆ و«الاستحواذ»٣⋆ كلتا الظاهرتَين ظاهرة تحلل أو تفكك Dissociation. في الحالة الأولى يقول المريض: إن روحًا خرجت منه وضلت بعيدًا عنه، وفي الثانية: إن روحًا غريبة سكنته وحلت فيه، عمومًا في هيئة لا تبعث على السرور. قد تبدو هذه الطريقة من صياغة الحالة غريبة، إلا أنها تصف وصفًا دقيقًا تلك الأعراض التي ندعوها اليوم بظاهرات التفكك أو الانفصال، أو حالات قريبة من السكيزوفرانيا (= الفصام). لكنها ليست أعراضًا مَرَضية صِرفة، لأننا نجدها كذلك في الأشخاص الأسوياء؛ فقد تتخذ هيئة تقلبات في الشعور العام بالصحة، وتغيرات غير عقلية في المزاج، وانفعالات لا يمكن التنبؤ بها، وقرف مفاجئ من كل شيء، وعطالة نفسية، وهلم جرًّا. حتى الظاهرات القريبة من الفصام، التي تتطابق مع الاستحواذ البدائي، يمكن ملاحظتها في الناس الأسوياء أيضًا؛ فهؤلاء أيضًا غير معصومين من شيطان الهوى؛ وهم أيضًا مؤهَّلون لأن «يركبهم» خبال أو رذيلة أو اعتقاد أحادي؛ فهذه الأشياء جميعًا تحفر فجوة عميقة بينهم وبين الذين أحلوهم من نفوسهم المكانة الأرفع، وتخلق في نفوسهم انشطارًا أليمًا.
يشعر البدائي أن انشطار النفس شيء غير ملائم وأنه شيء مَرَضي، تمامًا كما نشعر نحن، والفرق الوحيد هو أننا نسميه نزاعًا أو نرفزة أو انهيارًا عقليًّا. الانسجام غير المنقطع بين النبات والحيوان والإنسان والله، مرموزًا إليه بالفردوس، ليس بدون هدف وضعته قصة «الكتاب المقدس» في صميم بداية كل تطور نفسي، وأعلنت أن أول انبثاق لفجر الواعية — «سوف تكونان كالآلهة، عارفين الخير والشر» — كان خطيئةً مميتة. هذا، ولا بد أن يبدو تحطيم الوحدة الإلهية للواعية التي سادت الليل الأوَّلي — لا بد إلا أن تبدو خطيئة للعقل الساذج؛ فقد كان هذا الفعل هو التمرد اللوسيفيري (الشيطاني الذي يرافق سطوع نور العقل) من قبل الفرد على الواحد. لقد كان عملًا عدائيًّا من قبل التنافر على الانسجام، وانفصالًا عن اندماج الكل بالكل. لذلك لعن الله الحيَّة قائلًا: «وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه» (تكوين ٣: ١٥).
ومع ذلك، فقد كان بلوغ الوعي أغلى ثمرة أعطتها شجرة المعرفة؛ إذ كانت السلاح السحري الذي وهب الإنسان نصرًا على الأرض، والذي نرجو أن يمنحه نصرًا بعدُ أعظمَ على نفسه.

أن يعني الوعي الفردي انفصالًا ومعارضة، إن هذا شيء خَبِرَه الإنسان مرات لا حصر لها على مدى تاريخه الطويل. وكما أن زمن الفصام للفرد هو زمن للمرض، كذلك هو في حياة الأمم. ليس يصعب علينا أن نعترف أن زمننا هذا هو زمن فصام ومرض؛ فالأحوال السياسية والاجتماعية، تُفتِّت الدين والفلسفة، المدارس المتخاصمة في الفن الحديث والسيكولوجية الحديثة كل ذلك له معنًى واحد بهذا الخصوص. ثم هل يشعر أحد عنده أدنى حس بالمسئولية بنوع من الرضا عن هذا التحوُّل في مجرى الأحداث؟ لو كنا مخلصين، لكنَّا سلمنا بأن ما من أحد يشعر بتمام الرضا في عالم اليوم، الذي ما ينفك يبعث على السخط.

3


>>Click here to continue<<

علم النفس (مقالات وأبحاث)




Share with your best friend
VIEW MORE

United States America Popular Telegram Group (US)