فالحقيقة تعطي القوَّة أو تخلُّ بالتوازنات وتعمّق اللَّاتماثلات، وفي النهاية تمثل الانتصار في هذا الجانب بدلاً من الجانب الآخر. فالحقيقة هي إضافة للقوَّة، ولا تظهر إلّا من خلال علاقات القوَّة، لأنَّ الانتماء الأساسي للحقيقة هو علاقات القوَّة واللَّاتماثل واللَّاتمركز، والمعركة وفقاً لذلك إنَّما هي مسجّلة ومكتوبة في هذا النمط من الخطاب. وأمَّا القانون، الرأس الثالث في مثلث السلطة، فإنَّه يتطابق مع المثال الذي هو القانون الحي، وذلك لأنَّه يسمح بمحاكمة الحاضر وبإخضاعه لقانون أقوى منه. فالمثال هو، بمعنى من المعاني، المجد الذي يصنع القانون، والقانون هو الذي يعمل في انبهار الاسم، إنَّه بالمطابقة أو التسوية بين القانون والاسم المشع والمبهر العظيم، عندها يكون للمثال القوَّة التي تتقوَّى بها السلطة. إنَّ السلطة هي التي أتاحت شرعيَّاً إذاً حضور مفهوم الصراع حولها، وهو ما ولَّد سريعاً ظهور العنصريَّة، إذ عندما استبدل موضوع صراع الأعراق بموضوع نقاوة وطهارة العرق، ولدت العنصريَّة، وعندما تحوَّل التاريخ المضاد، شرعت العنصريَّة البيولوجيَّة في العمل، وفي الوقت الذي تحوَّل فيه خطاب صراع الأعراق إلى خطاب ثوري، فإنَّ العنصريَّة كانت الفكرة والمشروع والنبوءة الثوريَّة، العائدة بمعنى آخر وانطلاقاً من الجذر نفسه، ألا وهو خطاب صراع الأعراق، وهكذا يكثِّف فوكو مقولة المركزيَّة ببراعة: إنَّ العنصريَّة تعني حرفيَّاً الخطاب الثوري بالمقلوب.
خلال السنة الجامعيَّة 1982 ألقى فوكو سلسلة من الدروس حول موضوع: هرمينوطيقا الذات، سبقتها سلسلة أخرى تحت عنوان "الاهتمام بالذات" سنة 1981، وقد شكَّلت هذه الأخيرة الجزء الثالث من كتابه: "تاريخ الجنسانيَّة".
في هذا الدرس المطوَّل "هرمينوطيقا الذات"، وضَّح فوكو التحوَّل الذي عرفته قضيَّة الاهتمام بالنفس/ الذات، أو ما يُسمَّى بثقافة النفس، ومن أجل ذلك قام بتحليل مجموعة من نصوص الفلاسفة اليونان والرُّومان خلال القرنين الأوَّل والثاني بعد الميلاد. وقد كان منطلق هذا الدرس هو محاورة ألقيبياديس لأفلاطون ولعبارتي "اعرف نفسك" و"اهتمّ بنفسك"، ولمتابعة هذه التحوُّلات قام فوكو بقراءة كذلك نصوص المدارس الفلسفيّة اليونانيَّة خاصَّة عند الرواقيين والأبيقوريين والكلبيين.
إنَّ هذا العمل الذي قام به ميشال فوكو يُعدُّ منعطفاً جديداً في فلسفته، فمن خلاله تابع كيفيَّة تشكّل الذات الغربيَّة عبر التاريخ الثقافي والفلسفي لمجتمعات الغرب باعتبارها ذاتاً لا تخضع فقط لعمليَّات السيطرة، وإنَّما أيضاً من تقنيات وفنون الاهتمام بالذات. إنَّ عبارة "اعرف نفسك" كانت مصدراً من مصادر ظهور الفلسفة اليونانيَّة، في حين أنَّ عبارة "اهتمّ بنفسك" ارتبطت بدخول الفلسفة اليونانيَّة إلى المرحلة الهلينستيَّة التي تميَّزت بالانحطاط والتراجع، لكنَّ فوكو بيَّن من خلال هذه الدروس تزامن العبارتين، إلى أن جاءت الفلسفة الحديثة مع اللحظة الديكارتيَّة التي أقصت عبارة "اهتمّ بنفسك" وأسَّست المعرفة على عبارة "اعرف نفسك"، وهذا الإقصاء هو مصدر النقد الذي وجَّهه فوكو للحداثة الغربيَّة التي فصلت كما يقول بين البُعد العلمي والرُّوحي للإنسان. بالإضافة إلى موضوعة الذات التي استغرقت معظم الدروس المذكورة يورد فوكو تصوُّره للفلسفة ووظيفتها باعتبارها شكلاً من الفكر يحاول أن يحدّد شروط وحدود بلوغ الحقيقة من خلال الذات. إنَّ قارئ هذه الدروس يجد نفسه أمام مؤلّف ضخم يعالج قضايا فلسفيَّة بالغة الأهميَّة انطلاقاً من إشكاليَّة الذات، وهذا له دلالة مهمَّة في المشروع الفلسفي لميشيل فوكو، الذي كان يردّد دائماً: إنَّه ليس بفيلسوف، وإنَّما هو مجرَّد مؤرّخ.
أمَّا عن ترجمة هذه المحاضرات إلى العربيَّة، ونخصُّ بالذكر المحاضرات التي تمَّ تجميعها في كتابين صدرا عن دار الطليعة، الأوَّل يحمل عنوان "يجب الدفاع عن المجتمع[1]"، والثاني معنون بـ: "تأويل الذات[2]"، فقد تكفَّل بترجمتهما المختصّ في دراسة فوكو، المفكر والباحث الأكاديمي الجزائري الزواوي بغوره، أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة الكويت، الذي عرف باهتمامه بميشيل فوكو منذ وقت مبكر، بدءاً برسالته للدكتوراه تحت إشراف المفكر فتحي التريكي بعنوان: "الخطاب، بحث في بنيته وعلاقاته عند ميشيل فوكو"[3]، مروراً بكتابه: "ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر"[4]، وصولاً إلى كتابه: "مدخل إلى فلسفة ميشيل فوك.[5]
لقد استقبل الفكر العربي فلسفة ميشيل فوكو باهتمام واحتفاء كبيرين، ما أدَّى إلى انتشارها وتداولها بشكل واسع لدى الأوساط العربيَّة المثقفة، ويظهر ذلك من خلال الترجمات المختلفة لنصوصه، والتي يمكن أن نذكر منها:
* الكلمات والأشياء، ترجمة: مطاع صفدي، سالم يفوت، بدر الدين عرودكي، جورج أبي صالح، كمال أسطفان، مراجعة جورج زيناتي ومطاع صفدي، بيروت، مركز الإنماء القومي 1990.
* حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي 1986.
2
>>Click here to continue<<