حتى وإن كانت غير عقلانية، فالمعتقدات الدينية تفيد في جعل كل ما هو غريب، مألوفا.
صحيح أن هذه الفرضية تسمح بتفسير سبب انحسار المعتقدات الأسطورية القديمة، لكنها لا تقدم توضيحات كافية فيما يتعلق بسبب استمرار الأديان رغم تطور العلوم. أو السبب الذي يجعل تفسيراتها للعالم، تتميز بهذا القدر من الغلو والجنون.
-- تنظيم المجتمع --
حسب الأصل اللغوي الفرنسي لكلمة ديانة ((religion، فإن هذه الأخيرة تشير إلى كل ما "يربط" ((relie- تحقيب لغوي ممكن، لكنه يظل محط شك وتساؤل. من هذا المنظور، تكون مهمة الدين الأولى، هي الجمع بين الناس، وبالتالي خلق انتماءات عشائرية. إنها فرضية إميل دوركايم.
دعاة الجمهورية العلمانية الذين أقروا بانحسار شعبية الكنيسة داخل المجتمع ( وناضلوا من أجل القضاء عليها نهائيا أو على الأقل من أجل الفصل بين الكنيسة والدولة)، قد فهموا جيدا دور الدين في تأطير المجتمع عندما أحلوا مكانه مفهوم "الديانة العلمانية". هذا الاستبدال يظهر أيضا من خلال ما عُرف ب"معبد العقل" إبان الثورة الفرنسية و"دين الإنسانية" عند أوغست كانت، أو " التعاليم الجمهورية" التي ناد المسئولون السياسيون بضرورة تدوينها قصد تكوين مواطنين صالحين. دور الحفاظ على التماسك الاجتماعي هذا، وجب ترسيخه عن طريق أخلاق عامة ومراسيم تهدف إلى توحيد الجماعة حول قيم مقدسة.
وبالتالي، فنحن نجد هذه المهمة الاجتماعية مسجلة في أغلب كتب العهد القديم، والتي تحتوي على قواعد وقوانين تنظم حياة اليهود في أدق تفاصيلها. عند القدماء الإغريق والرومان، الديانة المدنية لا تنحصر في مجرد عقيدة أو مذاهب، بل تضم عادات وجب على الجميع احترامها. في القرون الوسطى، استطاعت الكنيسة المسيحية أن تبسط سيطرتها على كافة مناحي حياة المجتمع آنذاك : العادات الزراعية، عقود القران، التعميد، الحرب، السلم، الصيد : فقد كانت الكنيسة تؤطر الأشخاص كما تؤطر المجال(3).
أما في العديد من المجتمعات التقليدية، فالجهاز الرمزي والطقوسي المستعمل، يمنح الأعضاء معالم يهتدون بها في تنظيم الحياة اليومية للجماعة، تحديد قواعد الصيد والتحالف بين العشائر وتأهيل الفتيان والفتيات قصد تكليفهم بمهام معينة. طبعا، فوحدهم حراس "القانون" (Wunan) المتوارث جيلا بعد جيل، يدركون معنى هذه الصور المقدسة.
-- إعطاء معنى للحياة --
لا تنحصر مهمة الأديان في تحديد الأخلاق العامة و"الطواطم والطابوهات"، بالإضافة إلى القيم المقدسة والمحرمات. ولكنها تمنح، أيضا، عنصرا مهما، يجعل الوجود الإنساني محتملا: معنىً للحياة.
معنىً للحياة؟ خصص ماكس فيبر المئات من الصفحات من أجل تحليل أسلوب العيش (l’ethos ) داخل الأديان الكبرى : وهو الأسلوب الذي يحدده الحكماء، القديسون، الأنبياء، المتصوفة، كما نجدهم في اليهودية القديمة، البوذية أو الهندوسية، البروتستنتية، إلخ. نمط العيش هذا، يتخذ، في الآن ذاته، شكل مَثَلٍ أعلى نصبو إلى تحقيقه (الزهد المُطَهِّر أو الحرص البوذي) والتزام حياتي تضبطه الطقوس، الصلوات ومختلف "التمارين الروحية".
قد يُنظر إلي الدين ك "طقم وجودي" تجد فيه "الأرواح التائهة" ( الأشخاص الموجدون في حالة أزمة) ملاذً لها. القصص الكثيرة التي تروى حول المعتنقين الجدد للإنجيلية، الإسلام أو المسيحية، تصف لنا أشخاصا في حالة ضياع ( مدمنون على المخدرات أو الكحول، مجرمون أو يمرون من أزمة وجودية) تمكنوا، بفضل الدين، من إيجاد نمط حياتي مناسب، صورة ذات قيمة عن أنفسهم ونظام معيشي أكثر انضباطا ومسؤولية.
فما يُعرف ب"الأديان الشفائية "، ليس شيئا آخر سوى تأمين الرعاية اللازمة لأشخاص يعانون من أمراض نفسية أو عضوية، عن طريق منحهم العزاء والمواساة في حالة تعذر الشفاء التام.
هنا يكمن، ربما، أحد أهم أسباب نجاح الأديان: إنها تساعد على مواجهة نوائب الزمن، أكثر مما تساعد على التصدي لشبح الموت.
#أسباب_صمود_الأديان_أو_عدم_صمودها_
عند نهاية القرن 19، كتب نيتشه ينعي "موت الإله"، كما تحدث ماكس فيبر عن "نزع السحر عن العالم". في ذلك الوقت، ظن الجميع أن العالم الحديث يسير بخطى ثابتة نحو وضع حد نهائي للمعتقدات الدينية: الطب سيحل محل الصلاة، التقنية ستجر البساط من تحت أقدام السحر، العلم سيقضي على الخرافة، التقدم الاجتماعي والاقتصادي سيمثل بديلا عن الخلاص الأخروي.
غير أن الرياح لا تجري دائما بما تشتهيه السفن: فالأديان ما تزال صامدة في مجتمعات اليوم. صحيح أن الكنائس قد فقدت سطوتها على مجتمع القرن العشرين، لكن الأمر لا يتعلق بتراجع معمم للمعتقدات الدينية : لا في العالم، ولا في الغرب. بل على العكس من ذلك، ما حصل في نهاية القرن 20، هو "انتقام الإله"، كما أشارت إلى ذلك العديد من التحليلات. ما هي الأسباب؟ ما الذي حدث بالضبط؟
-- أسباب العودة --
>>Click here to continue<<