TG Telegram Group & Channel
هواجس غرفة العالم ( ليلى عبدالله ) | United States America (US)
Create: Update:

"في عام 300م فرغ الحكيم بيدبا، رأس البراهمة في الهند، بعدما حبَسَ نفسه عامًا بصحبة تلميذه الأثير، من وَضْع كتابٍ أمَرَه بكتابته الملك دبشليم عقب تخلّيه عن ظلم الرعية بناءً على نصائح حكيمه، وأراد مؤلفًا «يكون ظاهرُه سياسة العامة وتأديبها، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية»، وخرَجَ من تحت يديه بشكل متفرد، فـ «جعل كلامه على ألسن البهائم والسباع والطير، ليكون ظاهره لهوًا للخواص والعوام، وباطنه رياضةً لعقول الخاصة».

وفي عام 750م، وبينما كانت الخلافة العباسية في عصرها الأول تُغلظ قبضتها لتثبيت أركانها على تركة بني أمية، قامت السلطة باتخاذ إجراءات صارمة بحق كل مَن لا يثبت ولاءه للخلفاء الجُدد، وصلت إلى التصفية الجسدية بمجرد الشبهات الظنية، واندلع الصراع المرير على الحكم بين العلويين والعباسيين وما نتج عنه من قتل وسفك دماء دون رحمة وشفقة.

في ظل هذه الأجواء، قرّر الأديب الفارسي المزدكي روزبة بن داذويه، الذي تخلّى عن دينه وأسلم وحمل اسم "عبد الله بن المقفع" (106 – 143هـ)، والناقم على أوضاع عصره، الاحتجاج على كل ما لا يروق له بأحد أبرز أشكال المعارضة السياسية ابتكارًا. انتقى ابن المقفع من تراث قومه فلكلورًا شعبيًا يصلح لأن يدسّ به كافة آرائه السياسية والاجتماعية، ولو بشكل غير مباشر، بعدما نقله إلى العربية وبثَّ فيه روحًا إسلامية وعبّاسية، وأضاف له من قريحته فصولاً تزيد على نصف الكتاب ضمن بنية قصصية مغايرة تمامًا للأصل الهندي، فظهرت النسخة التي جابت الدنيا بأسرها من كتاب «كليلة ودمنة»، وهي النسخة ذات الخمسة عشر بابًا، وصارت هي المصدر الأصلي للمؤلَّف بعدما فُقدت الأولى وظلت الثانية طي الكتمان لمئات السنين.

صحيح أن ابن المقفع شذّب العنوان القديم للنسخة الفارسية وجعله أقرب للّسان العربي، إلا أن المتمعن يكتشف أنه أبقى عليه بالأساس ليقدّم عبره معنى مستترًا ربما يُلخص سبب ترجمة هذا الكتاب بالأساس، وهو الصراع بين الخير والشر، لأن كليلة لعبت دور الخير في قصتها فيما مثلت دمنة جانب الشر، وهو ما نجد له مثيلاً في العناوين الفرعية، وهو أمر منبعه فلسفة ابن المقفع المبنية على الثنائية الضدّية للخير والشر، وكأنه اعتبر كتابه هذا صيحة تحذير ورسالة خيرية أخيرة لمَن يهمّه الأمر كي لا يتفاقم الشر في نفوس المتصارعين ويستولي على كل شيء.

بنى ابن المقفع كتابه على ثنائية «خطاب القوة»، المتمثل في شخصية الملك الذي يسأل النصيحة دائمًا من الحكيم ويطلبها بشكلٍ آمر، و«قوة الخطاب»، المتمثلة في الجواب الشافي الحاضر دائمًا عند الفيلسوف. وبين القوتين يدور جدال الكلمات خلال السطور، لتطرح صراعًا أعلى خارجها عن مغبة وجود تنافر بين «السُلطة» و«الحكمة»، مُظهِرًا ثمار أن يتعاونا ويتكاملا، فإن اجتمع ملك ينصت وحكيم ينصح صارا مضربًا للأمثال بين الناس.

أن قصص كليلة ودمنة ليس غرضها محاورة سبع لثور ولا قرد لغيلم، بصفتها كحيوانات، بل يتضمّن كلّ باب من أبوابها مقصدًا معينًا، وجميع حوارات الأبطال تأوي أقوالاً مضمرة ورسائل خفية، قيل إنها موجّهة للخليفة العباسي رأسًا، وهو أبو جعفر المنصور الذي عُرف ببطشه الشديد بكل خصومه، ما يعيد للأذهان أن الكتاب وُضع بالأصل بعد صراع منتهٍ من حكيم مع ملكٍ ظالم أيضًا هو دبشليم، فهل حاول ابن المقفع أن يمنح لنفسه دور بيدبا؟

في جميع الأحوال، يبدو أن حيلة أديبنا بالضرب من وراء جُدر التورية لم تُفلح كثيرًا وأن رسالته المضمنة أخطأت هدفها، فرُوي أن عداءه للخليفة المنصور قد بلغه فأعوز لسفيان بن معاوية، عامله في البصرة، بقتل ابن المقفع…"

https://2u.pw/snrX6Q6

Forwarded from حَديث الأشجـار (مَريـم)
"في عام 300م فرغ الحكيم بيدبا، رأس البراهمة في الهند، بعدما حبَسَ نفسه عامًا بصحبة تلميذه الأثير، من وَضْع كتابٍ أمَرَه بكتابته الملك دبشليم عقب تخلّيه عن ظلم الرعية بناءً على نصائح حكيمه، وأراد مؤلفًا «يكون ظاهرُه سياسة العامة وتأديبها، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية»، وخرَجَ من تحت يديه بشكل متفرد، فـ «جعل كلامه على ألسن البهائم والسباع والطير، ليكون ظاهره لهوًا للخواص والعوام، وباطنه رياضةً لعقول الخاصة».

وفي عام 750م، وبينما كانت الخلافة العباسية في عصرها الأول تُغلظ قبضتها لتثبيت أركانها على تركة بني أمية، قامت السلطة باتخاذ إجراءات صارمة بحق كل مَن لا يثبت ولاءه للخلفاء الجُدد، وصلت إلى التصفية الجسدية بمجرد الشبهات الظنية، واندلع الصراع المرير على الحكم بين العلويين والعباسيين وما نتج عنه من قتل وسفك دماء دون رحمة وشفقة.

في ظل هذه الأجواء، قرّر الأديب الفارسي المزدكي روزبة بن داذويه، الذي تخلّى عن دينه وأسلم وحمل اسم "عبد الله بن المقفع" (106 – 143هـ)، والناقم على أوضاع عصره، الاحتجاج على كل ما لا يروق له بأحد أبرز أشكال المعارضة السياسية ابتكارًا. انتقى ابن المقفع من تراث قومه فلكلورًا شعبيًا يصلح لأن يدسّ به كافة آرائه السياسية والاجتماعية، ولو بشكل غير مباشر، بعدما نقله إلى العربية وبثَّ فيه روحًا إسلامية وعبّاسية، وأضاف له من قريحته فصولاً تزيد على نصف الكتاب ضمن بنية قصصية مغايرة تمامًا للأصل الهندي، فظهرت النسخة التي جابت الدنيا بأسرها من كتاب «كليلة ودمنة»، وهي النسخة ذات الخمسة عشر بابًا، وصارت هي المصدر الأصلي للمؤلَّف بعدما فُقدت الأولى وظلت الثانية طي الكتمان لمئات السنين.

صحيح أن ابن المقفع شذّب العنوان القديم للنسخة الفارسية وجعله أقرب للّسان العربي، إلا أن المتمعن يكتشف أنه أبقى عليه بالأساس ليقدّم عبره معنى مستترًا ربما يُلخص سبب ترجمة هذا الكتاب بالأساس، وهو الصراع بين الخير والشر، لأن كليلة لعبت دور الخير في قصتها فيما مثلت دمنة جانب الشر، وهو ما نجد له مثيلاً في العناوين الفرعية، وهو أمر منبعه فلسفة ابن المقفع المبنية على الثنائية الضدّية للخير والشر، وكأنه اعتبر كتابه هذا صيحة تحذير ورسالة خيرية أخيرة لمَن يهمّه الأمر كي لا يتفاقم الشر في نفوس المتصارعين ويستولي على كل شيء.

بنى ابن المقفع كتابه على ثنائية «خطاب القوة»، المتمثل في شخصية الملك الذي يسأل النصيحة دائمًا من الحكيم ويطلبها بشكلٍ آمر، و«قوة الخطاب»، المتمثلة في الجواب الشافي الحاضر دائمًا عند الفيلسوف. وبين القوتين يدور جدال الكلمات خلال السطور، لتطرح صراعًا أعلى خارجها عن مغبة وجود تنافر بين «السُلطة» و«الحكمة»، مُظهِرًا ثمار أن يتعاونا ويتكاملا، فإن اجتمع ملك ينصت وحكيم ينصح صارا مضربًا للأمثال بين الناس.

أن قصص كليلة ودمنة ليس غرضها محاورة سبع لثور ولا قرد لغيلم، بصفتها كحيوانات، بل يتضمّن كلّ باب من أبوابها مقصدًا معينًا، وجميع حوارات الأبطال تأوي أقوالاً مضمرة ورسائل خفية، قيل إنها موجّهة للخليفة العباسي رأسًا، وهو أبو جعفر المنصور الذي عُرف ببطشه الشديد بكل خصومه، ما يعيد للأذهان أن الكتاب وُضع بالأصل بعد صراع منتهٍ من حكيم مع ملكٍ ظالم أيضًا هو دبشليم، فهل حاول ابن المقفع أن يمنح لنفسه دور بيدبا؟

في جميع الأحوال، يبدو أن حيلة أديبنا بالضرب من وراء جُدر التورية لم تُفلح كثيرًا وأن رسالته المضمنة أخطأت هدفها، فرُوي أن عداءه للخليفة المنصور قد بلغه فأعوز لسفيان بن معاوية، عامله في البصرة، بقتل ابن المقفع…"

https://2u.pw/snrX6Q6


>>Click here to continue<<

هواجس غرفة العالم ( ليلى عبدالله )






Share with your best friend
VIEW MORE

United States America Popular Telegram Group (US)