أضِف إلى هذا أنّ أفضلَ وسيلةٍ لنشرِ فكرة هي بالتربية، فهي المرادِف الفكري للتكاثر البيولوجي؛ بالتكاثر يضمن المرءُ استمرارَ جيناته وصفاته الجسدية، لكنّه بالتربية يضمنُ استمرارَ أفكارِه وقيمِه وتقاليده وأُسلوبِ حياته، لأنها عندئذ لن تنتقل أُفقيًا فقط (بين أفراد الجيل الواحد) بل عموديًا كذلك (عبر الأجيال) فتستمر حتى بعد موتِ أصحابِها لأنّ أبناءَهم ومَن بعدَهم سيحملها وينشرها فيمن بعدَه، ولأن «التعلّم في الصِغَر كالنقش على الحجر» فما يتعلّمه المرءُ من والديه في سنواتِه الأُولى يطبع فيه أثرًا أكبرَ مما يتعلّمه فيما يَلي من حياتِه. إنْ شئتَ نشرَ فكرةٍ ما في عُمقِ تكوينِ الفرد، رَبِّ الطفل عليها. ولكَ في الأنظمةِ الشمولية مثالٌ واضح، فتراها لا تكلّ ولا تمل في محاولاتها للتأثير على الأطفال عبر المناهج التعليمية والبرامج «التثقيفية» والتجمّعات الشبابية.
في اللاتينية عبارةٌ هي «Contra mundum» تعني حرفيًا "مُعاداة العالَم" يوصَف بها من وقفَ ضدّ زمانِه وثار على روحِ عصره. عندما تسمعُها لأول مرة سيخطر في بالك كل الرجال الذين خرجوا عن المألوف بثورةٍ أو فكرةٍ في كتاب أو خطاب، وكلّ امرئٍ قاومَ زمانَه فأوقفه على الأبوابِ وطلبَ مِنه عِلّةً وتفسيرًا. لكن فكّر بها مرةً أُخرى؛ ربما كان أفضل لو خطرَت ببالك صورةُ أبٍ وابنه، فالتربيةُ خير وسيلةٍ للمقاومة، لأنّ الثوراتِ تموت وتُحرَّف وتُمسَخ وتُستَغَل. لكنّك بالتربية والتأديب لن تصنع فكرةً عرجاء تموت بموت حامليها بل ستصنع أُسلوب حياةٍ يستمر ويتكاثر جيلًا بعد جيل. إنْ ثُرتَ على زمنك، أليست تربيةُ ابنك على مبادئك تربيةً حسنة هي خيرُ ثورةٍ وتمرد؟ لن تحقّق ما أملت به اليوم، لكنك ستحققه غدًا أو بعد غد. أذكرُ أبياتًا ظلت في بالي في مدح الرسول محمد (ص):
أَنشَأْتَ أُمَّتَنَا مِن مُفرَدٍ وَحِدٍ
حَتَّى تَحَضَّرَ مِنهَا عَالَمٌ وَبَدَا
وإنَّ مَوؤُدَةً أَنْقَذتَهَا وَلَدَت
وُلدَانَ يَعيَى بَها المُحصِي وَإِنْ جَهِدَا
صارُوا كَثِيرًا كَمَا تَهْوَى فَبَاهِ بِهِمْ
وَاْسْتَصْلِحِ الجَمْعَ وَاْطْرَحْ مِنْهُ مَا فَسَدَا
>>Click here to continue<<