TG Telegram Group & Channel
تِشرين. | United States America (US)
Create: Update:

سَنلتقي يومًا | أمَاني البُريهي.

في غرفةٍ جدرانها زُينت بالأبيض، راقدٌ كجثة هامدة رجلٌ تضرم الشيب في رأسه، شاحبٌ وجهه كأنه شبح عيناه سوداوتين غارقتين في الكمد، يغزو الليل جفنيه المنهكين من ضربات الأرق، كلما أغمض عينيه وحاول فتحها يظن نفسه لوهلات أنه غادر هذا العالم، يصحو من شرودٍ عميق، بعد معارك ضارية مع أفكاره التي جعلت من عقله سجينًا للشتات، فلا يعود من هذا الحبس، يستنجد زاحفًا على ركبتيه بأدويته المهدئة-التي قام بصرفها له طبيبه المعالج- فيغرق في نومٍ عميق ليرتاح من عناء تفكير طويل لم يصل بعده لشيء وهكذا تمر أيامه. ما حدث له جعل منه روحٌ طائفة في عالم الحلم وجثة ساكنة في الواقع، ما مر به كان كبيرًا على أن يستوعبه.

منذُ سنوات وحيدًا يسكن هذه الغرفة الخالية من أي لون كان، أصبحت عالمه بعدما خذلته آخر رصاصة اخترقت صدر آخر ابنائه، لم يطق ذلك المنظر المروع، أرواح فلذات كبده تحتضر أمامه تلفظ أنفاسها الأخيرة لتكُن سمًا تسلل لروحه، كان مشهدًا بشعًا يُصيب بالجنون لا يمكن لبشري تحمله، لم يكن يعلم بأنّه سيؤذى من قِبل عائلته فهُم نقطة ضعفه الوحيدة. لم يستطع بعدها التعايش مع الحياة التي ضُرِجت بدماء أطفاله، توسل للموت كثيرًا حتى أنه حاول الإنتحار، لكن الحياة كانت تتمسك به فيعود مجددًا يحمل على عاتقه هذا الحزن القاتم، مستسلمًا محني الظهر كجندي عاد من ساحة الحرب منهزمًا.

التاسعة صباحًا
موعده مع طبيبه النفسي الذي لم ييأس منذ سنوات في إنقاذهِ مما هو فيه، يحاول جعله يتحدث لكن دون جدوى، فهو في حالة بؤسٍ شديدة، تتضارب به الأحداث ويعود لذاك الحادث الشنيع في كل مرة يحاول بها النسيان، ترفض ذاكرته النسيان تمامًا كما ترفض صور الذكريات الأليمة أن تتركه، ينظر إلى السماء فيتخيل أرواح وأشباح غريبة تطارده، يسمع أصوات لا وجود لها، يحيا جسد دون روح.

كل يوم يرى نفسه في الحياة، يلهث ولو لقليلٍ من السلام لكنه كلما حاول بُتر جزء منه، لا يدري لمَ يهرب منه السلام، لمَ هذا التملص والإختباء؟
ينقذه الطبيب كل مرة، وتخذله الذكريات، فتضيق به جدران غرفته التي لم يغادرها منذ زمن، ترهقه ذكرياته الكثيرة وتلك الأصوات المزعجة التي لا وجود لها إلا في مُخليته، يشعر بالذنب، الذنب ذاته الذي يجعله يشعر إنه شخص سيئ لا يستحق الحياة، يشعر باليأس من حياته، كثيرًا ما يُتمتم بصمتٍ "لا أمل لي في الحياة، الحياة حاجز كبير بيني وبين ابنائي" يخاطب الجدران تارةً، وتارةً يدخل في نوبة جنون عارمة.

يقضي ليال يقاتل السهد، فيجعل من غرفته ساحة معركة، ثم يصرخ بغضب كأنه يصرخ على أحد لكن لا وجود لأحد سواه! يعارك الهواء ونفسه.
يصبح المكان عبارة عن فوضى، شخص يعاني من نفسه، أين يترك حزنه ويمضي؟
فالهرب وهم، هو يحمل حزنه معه أينما رحل، يحمل الذكريات في معطفه، تمضي الأيام هكذا بين ليال أرق، ليال مظلمة وبؤس لا ينتهي، وبين نهار معتم يفتقد الشغف فيه للتنفس حتى.

على غير عادته، استيقظ ذات صباحٍ هادئ تظن لوهلة أنه شُفي مما يشعر به، إن ما حل به تبخر، ينظر إليه الطبيب متأملًا هذه فرصته ليحاول معه، دون أن ينطق حتى بسؤال كان يروي ما مر به، يروي لأول مرة بحزن مخلوط بالكبرياء
"حينها كانت السماء كئيبة لعلها كانت تشعر أن شيئًا سيحدث، دقائق حتى شاركتني المطر، كنتُ ألوح بتوسلٍ ألا تخترق الرصاصات روحي المستوطنة أجسادهم، كنت أنظر بجمود، حتى تشنج داخلي، ثقل الهواء فكدتُ أجزم أني لا أتنفس، ضربات قلبي كادت تشعرني أنه سيتوقف حتمًا، كنت سأركض لولا أن سرعة الرصاصات خذلتني، فتمنيتُ لو اخترقت عيناي عوضًا عن رؤيتهم هكذا، مر شريط حياتي أمامي كفيلم، أشتد بكاء السماء وعيناي فبكيت لأوّل مرة كطفل، ثم تسمرتُ في مكاني كأني لا أشعر، أنظر كمن لا ينظر، أريد أن أصرخ لكن صوتي لم يكاد يتجاوز حنجرتي فبكيتُ أكثر، يداي المُلطخة بدماء ابنائي، ورجفة داخلي، سواد في سواد ثم لم أشعر بشيء، استيقظت فجأة هنا للوهلة الأولى ظننت أني غادرت معه، لكني كنت أتنفس، وصوت موسيقى قلبي لازالت تعمل، لم أرحل معهم"

كان لايزال الطبيب يستمع إليه، يشعر بحزنه وبحجم المعاناة، يشعر بالأمل أنه سيعود للحياة مجددًا، ينظر لعينيه التي كأنها ستمطر، ينظر مختلفًا هذه المرة لا يحكي طلاسم، إنه يحكي البؤس بوعي تام، لأول مرة يراه يحكي، ولأول مرة يراه يتنهد، لم يتسلل اليأس للطبيب أنه سيبدأ بالتحسن، كان يتأمله بقينٍ أنه أقوى من الصدمة التي يُعانيها، أنه أقوى من الاكتئاب أيضًا.

مر شهر منذ أول يوم وصف جحيمه، أصبح يشعر أن الحديث يخفف العبء قليلًا، كان الطبيب يستمع لحكاياته، تارةً يحكي حياته البسيطة الهادئة بحب، يومه العادي الذي يبدأ بالعمل، استقبال أطفاله له الدفء المُنبعث من قبلاتهم له، والحنان الذي يغمر منزله، حنينه لتلك الأيام وللحب الذي كان فيها، وتارةً يشرد مجددًا تعود له الذكريات فيبدو كشخص سيحتضن المشنقة.

سَنلتقي يومًا | أمَاني البُريهي.

في غرفةٍ جدرانها زُينت بالأبيض، راقدٌ كجثة هامدة رجلٌ تضرم الشيب في رأسه، شاحبٌ وجهه كأنه شبح عيناه سوداوتين غارقتين في الكمد، يغزو الليل جفنيه المنهكين من ضربات الأرق، كلما أغمض عينيه وحاول فتحها يظن نفسه لوهلات أنه غادر هذا العالم، يصحو من شرودٍ عميق، بعد معارك ضارية مع أفكاره التي جعلت من عقله سجينًا للشتات، فلا يعود من هذا الحبس، يستنجد زاحفًا على ركبتيه بأدويته المهدئة-التي قام بصرفها له طبيبه المعالج- فيغرق في نومٍ عميق ليرتاح من عناء تفكير طويل لم يصل بعده لشيء وهكذا تمر أيامه. ما حدث له جعل منه روحٌ طائفة في عالم الحلم وجثة ساكنة في الواقع، ما مر به كان كبيرًا على أن يستوعبه.

منذُ سنوات وحيدًا يسكن هذه الغرفة الخالية من أي لون كان، أصبحت عالمه بعدما خذلته آخر رصاصة اخترقت صدر آخر ابنائه، لم يطق ذلك المنظر المروع، أرواح فلذات كبده تحتضر أمامه تلفظ أنفاسها الأخيرة لتكُن سمًا تسلل لروحه، كان مشهدًا بشعًا يُصيب بالجنون لا يمكن لبشري تحمله، لم يكن يعلم بأنّه سيؤذى من قِبل عائلته فهُم نقطة ضعفه الوحيدة. لم يستطع بعدها التعايش مع الحياة التي ضُرِجت بدماء أطفاله، توسل للموت كثيرًا حتى أنه حاول الإنتحار، لكن الحياة كانت تتمسك به فيعود مجددًا يحمل على عاتقه هذا الحزن القاتم، مستسلمًا محني الظهر كجندي عاد من ساحة الحرب منهزمًا.

التاسعة صباحًا
موعده مع طبيبه النفسي الذي لم ييأس منذ سنوات في إنقاذهِ مما هو فيه، يحاول جعله يتحدث لكن دون جدوى، فهو في حالة بؤسٍ شديدة، تتضارب به الأحداث ويعود لذاك الحادث الشنيع في كل مرة يحاول بها النسيان، ترفض ذاكرته النسيان تمامًا كما ترفض صور الذكريات الأليمة أن تتركه، ينظر إلى السماء فيتخيل أرواح وأشباح غريبة تطارده، يسمع أصوات لا وجود لها، يحيا جسد دون روح.

كل يوم يرى نفسه في الحياة، يلهث ولو لقليلٍ من السلام لكنه كلما حاول بُتر جزء منه، لا يدري لمَ يهرب منه السلام، لمَ هذا التملص والإختباء؟
ينقذه الطبيب كل مرة، وتخذله الذكريات، فتضيق به جدران غرفته التي لم يغادرها منذ زمن، ترهقه ذكرياته الكثيرة وتلك الأصوات المزعجة التي لا وجود لها إلا في مُخليته، يشعر بالذنب، الذنب ذاته الذي يجعله يشعر إنه شخص سيئ لا يستحق الحياة، يشعر باليأس من حياته، كثيرًا ما يُتمتم بصمتٍ "لا أمل لي في الحياة، الحياة حاجز كبير بيني وبين ابنائي" يخاطب الجدران تارةً، وتارةً يدخل في نوبة جنون عارمة.

يقضي ليال يقاتل السهد، فيجعل من غرفته ساحة معركة، ثم يصرخ بغضب كأنه يصرخ على أحد لكن لا وجود لأحد سواه! يعارك الهواء ونفسه.
يصبح المكان عبارة عن فوضى، شخص يعاني من نفسه، أين يترك حزنه ويمضي؟
فالهرب وهم، هو يحمل حزنه معه أينما رحل، يحمل الذكريات في معطفه، تمضي الأيام هكذا بين ليال أرق، ليال مظلمة وبؤس لا ينتهي، وبين نهار معتم يفتقد الشغف فيه للتنفس حتى.

على غير عادته، استيقظ ذات صباحٍ هادئ تظن لوهلة أنه شُفي مما يشعر به، إن ما حل به تبخر، ينظر إليه الطبيب متأملًا هذه فرصته ليحاول معه، دون أن ينطق حتى بسؤال كان يروي ما مر به، يروي لأول مرة بحزن مخلوط بالكبرياء
"حينها كانت السماء كئيبة لعلها كانت تشعر أن شيئًا سيحدث، دقائق حتى شاركتني المطر، كنتُ ألوح بتوسلٍ ألا تخترق الرصاصات روحي المستوطنة أجسادهم، كنت أنظر بجمود، حتى تشنج داخلي، ثقل الهواء فكدتُ أجزم أني لا أتنفس، ضربات قلبي كادت تشعرني أنه سيتوقف حتمًا، كنت سأركض لولا أن سرعة الرصاصات خذلتني، فتمنيتُ لو اخترقت عيناي عوضًا عن رؤيتهم هكذا، مر شريط حياتي أمامي كفيلم، أشتد بكاء السماء وعيناي فبكيت لأوّل مرة كطفل، ثم تسمرتُ في مكاني كأني لا أشعر، أنظر كمن لا ينظر، أريد أن أصرخ لكن صوتي لم يكاد يتجاوز حنجرتي فبكيتُ أكثر، يداي المُلطخة بدماء ابنائي، ورجفة داخلي، سواد في سواد ثم لم أشعر بشيء، استيقظت فجأة هنا للوهلة الأولى ظننت أني غادرت معه، لكني كنت أتنفس، وصوت موسيقى قلبي لازالت تعمل، لم أرحل معهم"

كان لايزال الطبيب يستمع إليه، يشعر بحزنه وبحجم المعاناة، يشعر بالأمل أنه سيعود للحياة مجددًا، ينظر لعينيه التي كأنها ستمطر، ينظر مختلفًا هذه المرة لا يحكي طلاسم، إنه يحكي البؤس بوعي تام، لأول مرة يراه يحكي، ولأول مرة يراه يتنهد، لم يتسلل اليأس للطبيب أنه سيبدأ بالتحسن، كان يتأمله بقينٍ أنه أقوى من الصدمة التي يُعانيها، أنه أقوى من الاكتئاب أيضًا.

مر شهر منذ أول يوم وصف جحيمه، أصبح يشعر أن الحديث يخفف العبء قليلًا، كان الطبيب يستمع لحكاياته، تارةً يحكي حياته البسيطة الهادئة بحب، يومه العادي الذي يبدأ بالعمل، استقبال أطفاله له الدفء المُنبعث من قبلاتهم له، والحنان الذي يغمر منزله، حنينه لتلك الأيام وللحب الذي كان فيها، وتارةً يشرد مجددًا تعود له الذكريات فيبدو كشخص سيحتضن المشنقة.


>>Click here to continue<<

تِشرين.




Share with your best friend
VIEW MORE

United States America Popular Telegram Group (US)