تخف الجروح بتواليها، وتهدأ الصدمات بالتكرار، فأفكر طيلة الوقت فيما قاله بيجوڤيتش: بين الحُزن واللامبالاة سأختار الحُزن؛ هكذا تخير الرجل شعوره بشجاعة ليهرب إلى حريته، وظللت طويلًا أناور بالملامبالاة.
منذ بطء الطوفان وأنا أبصر مراحل الملل في نفسي قبل الناس، لأنني أعي جيدًا طاقة البشر في تحمل الأحداث العِظام. لكن العاقل يعرف كيف يفرق بين أن يَمَلّ، وبين صفع الضمير بإلف المَصاب. أليس هذا داء الحمق؟ أطمئن نفسي بأن البلاء بلاء غيري، لأن رغيف خبزي لا زال كاملًا، وسقف بيتي على ما يرام.
بين الحزن واللامبالاة، يختار القلبُ الشريفُ أن يحزن، فالحزن قرارٌ إيمانيٌّ والألم أنبل في النهاية من اللا شيء، كما لا يستقيمُ القلب بإنسانيته إلا بهذا الجُرح النبيل. ربّما نجَتْ اللامبالاة بصاحبها مرّة، لكنّها لا تُعينه مرّتين، فهي تمويهٌ على القلب، وتمرّد على الحسّ، والمتمرّد على نفسه لا يُفلح.
قد لا يكونُ الحزن خيارًا مباشرًا، لكنه طارئٌ يُخيَّل إليك أن لك فيه يدًا، ولا يبقَ لك إلا أن تفتح له الباب، أو أن تواريه بغطاءٍ من لامبالاة زائفة وعجز تليد. ولكنّ التمثيل لا يطول، والكذب على النفس لا يورث سلامًا، بل يخلّف وجعًا خفيًا لا يهدأ، ويظهر إذا خمد ضجيج الأيام.
إنّ الخوفَ أشدُّ من الألم، لأنه يعقِّلكَ عن تقبله، فلا تُكابدُه، وليس يُخشى من الحزن أن يقتلك، ولكن يُخشى منك أن تهرب منه فتفقد ما يُبقيك حيًّا: شعور صادق بالولاء. وما ذلّ إنسانٌ إلا إذا استوحش من شعوره، وما هلك إلا إذا رضي بأن يعيش فارغ القلب جبان.
بين الحزنِ واللامبالاة سأختار الحزن كل مرة، لعلني أرتجل في نفسي ما يكفي من الشجاعة أن أحيا قبل أن أموت.
>>Click here to continue<<