TG Telegram Group & Channel
الجوهرة العنقري | United States America (US)
Create: Update:

" قماشة ولولوة "
بقلم احمد بن صالح الرماح

نشأت وترعرت في طفولتي بمدينة الزبير وسط حي يسوده الترابط الاجتماعي كما هو سائد في جميع القرى والحواضر آنذاك.

توفيت والدتي وانا ابن اربع سنين وكان عمرها تسعة وثلاثين ربيعاً. وكان والدي يسافر لأجل التجارة حيث الترحال المضني والمليء بالمشاق والذي يستغرق شهوراً طويلة.

وكانت تسكن بالجوار سيدتان، وكان جُل همهما خدمة الجيران والوقوف على حاجاتهم. فكانتا تنفسان من تلد، وتجهزان العرائس وتتعهدان حفلات الزفاف، وتواسيان الجميع في حالات الوفاة.

وكانت كل هذه الخدمات لوجه الله. بل ذهبن إلى أبعد من ذلك، فقد كانتا تتكفلان بالصرف على بعض البيوت والأسر المحتاجة في الحي والأحياء المجاورة حتى ولو كان في هذه البيوت قيّمون من الرجال!

وكان بيت السيدتين بمثابة "الصالون الأدبي" حيث تجتمع نساء المدينة في رواق المنزل الأنيق ويتبادلن الأحاديث الشيقة منذ الصباح الباكر وحتى أذان المغرب. ولا أذكر يوماً واحداً كان هذا البيت خالياً فيه من الضيوف.

وبالمناسبة، فإن هذا البيت قد صُمِّمَ وفق معايير هندسية متينة وكأنه لا ينتمي للبيئة المحيطة حيث البيوت العتيقة. وقد صاغت السيدتان بنود عقد البناء بشكل نادر في تلك الأيام حيث لم تكن ثقافة عقود التشييد سائدة آنذاك، وبالذات في المجتمع البسيط.

وحيث كانت العادات وقت العيد تتطلب من كل بيت المشاركة في مأدبة العيد المتنوعة والتي يتم الاستعداد لها بكل سكة "الزقاق الصغير" حيث يقدم كل بيت طبقاً متعارفاً عليه ويُنسَّق بشكل تلقائي حتى أضحى لكل عائلة طبقها الموسوم. وبالرغم من أن احتفالية المعايدة في السكة كانت للرجال فقط، فقد كانت السيدتان تصران على المشاركة ويطلبان مني -وقد كنت وقتها ابن عشر سنين- أن أخرج بطبقهن الذي كان من ألذ الاطباق حيث الذائقة العالية والطهي الرفيع الذي تميزت به السيدتان.

توفيت السيدة الكبرى وأنا ابن اثني عشرة سنة، فأخذت على عاتقي الاهتمام بأختها الأخرى والتي أضحت طاعنة في السن، فهي بمثابة والدتي رحمها الله فقد آن الأوان لتسديد النزر اليسير من الديون الاجتماعية المتراكمة لهاتين السيدتين العملاقتين لعموم المجتمع.

وعند اقترابي أكثر من هذه السيدة العظيمة، تكشفت لي حقائق أخرى كثيرة وقفت أمامها حيران وشعرت بالتقازم أمام هذا الصرح العظيم من العطاء والتفاني. فقد كانت تطلب مني في كل ليلة وعند حلول الظلام الدامس حيث الأزقة الضيقة والخالية من الإنارة، أن أرافقها لبعض البيوت وكانت تعطي هذا البيت المال وذلك البيت الطعام دون أن يعرفها أحد،فقد كانت تغطي نفسها تماما ولا تصدر أي صوت كي لا يعرفها أحد.

كان هذا المشهد السريالي يمر بي يومياً ولم أكن أعرف من هم أصحاب هذه البيوت وعلى أي أساس تتم المساعدة ولماذا لم تكونا تُعّرفانهم بنفسيهما حتى فهمت لما كبرت وعرفت قيمة الاخلاص ولذة العطاء بلا مقابل!

بل ذهبت السيدة إلى أبعد من ذلك، فقد كانت تذهب لأطراف المدينة في الليل لرمي الطعام للبهائم إذ إن في كل كبد رطبة أجراً!

وعندما تضيق البيوت لعمل أي مناسبة في ظل شح الإمكانات، فإن بيت السيدتين هو "القاعة متعددة الأغراض"، ولا أنسى التجهيزات الكبيرة في هذا البيت لما تزوجت أختي الكبرى فقد كان التجهيز مبهراً في معايير تلك الأيام.

ولعل السؤال الأهم والذي يبرز هنا عن موارد السيدتين للقيام بكل هذه الأعمال النبيلة فقد كانت السيدتان عنواناً لحسن الإدارة المالية بل فن إدارة الحياة، حيث تجمعت لديهما ثروة بسيطة من الخياطة اليدوية للفساتين وكلما تجمع لديهن شيء، اشترتا عقاراً مدرّاً حتى أصبح لديهن العديد من البيوت ذات الريع الوفير. وعند سؤالي لهما عن إمكانية استخدام الماكنة الكهربائية للخياطة السريعة بدلاً عن تلك اليدوية والتي تتطلب جهداً مضنياً، كان الجواب القاطع أن المحافظة على الجودة تتطلب غرس الإبرة وخزة وخزة في رحلة صبر ومصابرة حتى أضحت منتجاتهما أيقونة تتحدث عنها الأحياء المجاورة.

وبعد ثلاث سنين من التتلمذ على يد هذه السيدة العظيمة، اضطررتُ للرحيل للدراسة ولم تكن وسائل التواصل سهلة آنذاك فقد كانت ترسل لي "المكاتيب" وتخبرني عن حالتها، فأجيبها بمكتوب أخط به مشاعر العرفان لهذه السيدة النبيلة.

وقد كان آخر مكتوب بيننا لما أخبرتها عن تخرجي من الجامعة وعقد العزم للزواج فباركت لي هذه الخطوة وتمنت أن تحضر عرسي فأنا ابنها المدلل إذ لم ترزق بذرية ولكن الأجل كان أسرع من ذلك فتوفيت في الزبير بعد أيام قليلة من زواجي.

ولعل المشاعر تتلاطم وتخونني التعابير في ذكر مناقب السيدتين ووصف مآثرهن المجيدة، إذ كنت أتعلم في كل يوم يمر علي وأنا بالقرب منهن. هؤلاء السيدات اللاتي نفخر بهن ونتحلى بالحديث عنهن وسرد قصصهن حيث لم تكونا مجرد أختين في مجتمع قروي صغير، بل كانتا معلمتين من طراز فريد ونادر وأخاذ.

" قماشة ولولوة "
بقلم احمد بن صالح الرماح

نشأت وترعرت في طفولتي بمدينة الزبير وسط حي يسوده الترابط الاجتماعي كما هو سائد في جميع القرى والحواضر آنذاك.

توفيت والدتي وانا ابن اربع سنين وكان عمرها تسعة وثلاثين ربيعاً. وكان والدي يسافر لأجل التجارة حيث الترحال المضني والمليء بالمشاق والذي يستغرق شهوراً طويلة.

وكانت تسكن بالجوار سيدتان، وكان جُل همهما خدمة الجيران والوقوف على حاجاتهم. فكانتا تنفسان من تلد، وتجهزان العرائس وتتعهدان حفلات الزفاف، وتواسيان الجميع في حالات الوفاة.

وكانت كل هذه الخدمات لوجه الله. بل ذهبن إلى أبعد من ذلك، فقد كانتا تتكفلان بالصرف على بعض البيوت والأسر المحتاجة في الحي والأحياء المجاورة حتى ولو كان في هذه البيوت قيّمون من الرجال!

وكان بيت السيدتين بمثابة "الصالون الأدبي" حيث تجتمع نساء المدينة في رواق المنزل الأنيق ويتبادلن الأحاديث الشيقة منذ الصباح الباكر وحتى أذان المغرب. ولا أذكر يوماً واحداً كان هذا البيت خالياً فيه من الضيوف.

وبالمناسبة، فإن هذا البيت قد صُمِّمَ وفق معايير هندسية متينة وكأنه لا ينتمي للبيئة المحيطة حيث البيوت العتيقة. وقد صاغت السيدتان بنود عقد البناء بشكل نادر في تلك الأيام حيث لم تكن ثقافة عقود التشييد سائدة آنذاك، وبالذات في المجتمع البسيط.

وحيث كانت العادات وقت العيد تتطلب من كل بيت المشاركة في مأدبة العيد المتنوعة والتي يتم الاستعداد لها بكل سكة "الزقاق الصغير" حيث يقدم كل بيت طبقاً متعارفاً عليه ويُنسَّق بشكل تلقائي حتى أضحى لكل عائلة طبقها الموسوم. وبالرغم من أن احتفالية المعايدة في السكة كانت للرجال فقط، فقد كانت السيدتان تصران على المشاركة ويطلبان مني -وقد كنت وقتها ابن عشر سنين- أن أخرج بطبقهن الذي كان من ألذ الاطباق حيث الذائقة العالية والطهي الرفيع الذي تميزت به السيدتان.

توفيت السيدة الكبرى وأنا ابن اثني عشرة سنة، فأخذت على عاتقي الاهتمام بأختها الأخرى والتي أضحت طاعنة في السن، فهي بمثابة والدتي رحمها الله فقد آن الأوان لتسديد النزر اليسير من الديون الاجتماعية المتراكمة لهاتين السيدتين العملاقتين لعموم المجتمع.

وعند اقترابي أكثر من هذه السيدة العظيمة، تكشفت لي حقائق أخرى كثيرة وقفت أمامها حيران وشعرت بالتقازم أمام هذا الصرح العظيم من العطاء والتفاني. فقد كانت تطلب مني في كل ليلة وعند حلول الظلام الدامس حيث الأزقة الضيقة والخالية من الإنارة، أن أرافقها لبعض البيوت وكانت تعطي هذا البيت المال وذلك البيت الطعام دون أن يعرفها أحد،فقد كانت تغطي نفسها تماما ولا تصدر أي صوت كي لا يعرفها أحد.

كان هذا المشهد السريالي يمر بي يومياً ولم أكن أعرف من هم أصحاب هذه البيوت وعلى أي أساس تتم المساعدة ولماذا لم تكونا تُعّرفانهم بنفسيهما حتى فهمت لما كبرت وعرفت قيمة الاخلاص ولذة العطاء بلا مقابل!

بل ذهبت السيدة إلى أبعد من ذلك، فقد كانت تذهب لأطراف المدينة في الليل لرمي الطعام للبهائم إذ إن في كل كبد رطبة أجراً!

وعندما تضيق البيوت لعمل أي مناسبة في ظل شح الإمكانات، فإن بيت السيدتين هو "القاعة متعددة الأغراض"، ولا أنسى التجهيزات الكبيرة في هذا البيت لما تزوجت أختي الكبرى فقد كان التجهيز مبهراً في معايير تلك الأيام.

ولعل السؤال الأهم والذي يبرز هنا عن موارد السيدتين للقيام بكل هذه الأعمال النبيلة فقد كانت السيدتان عنواناً لحسن الإدارة المالية بل فن إدارة الحياة، حيث تجمعت لديهما ثروة بسيطة من الخياطة اليدوية للفساتين وكلما تجمع لديهن شيء، اشترتا عقاراً مدرّاً حتى أصبح لديهن العديد من البيوت ذات الريع الوفير. وعند سؤالي لهما عن إمكانية استخدام الماكنة الكهربائية للخياطة السريعة بدلاً عن تلك اليدوية والتي تتطلب جهداً مضنياً، كان الجواب القاطع أن المحافظة على الجودة تتطلب غرس الإبرة وخزة وخزة في رحلة صبر ومصابرة حتى أضحت منتجاتهما أيقونة تتحدث عنها الأحياء المجاورة.

وبعد ثلاث سنين من التتلمذ على يد هذه السيدة العظيمة، اضطررتُ للرحيل للدراسة ولم تكن وسائل التواصل سهلة آنذاك فقد كانت ترسل لي "المكاتيب" وتخبرني عن حالتها، فأجيبها بمكتوب أخط به مشاعر العرفان لهذه السيدة النبيلة.

وقد كان آخر مكتوب بيننا لما أخبرتها عن تخرجي من الجامعة وعقد العزم للزواج فباركت لي هذه الخطوة وتمنت أن تحضر عرسي فأنا ابنها المدلل إذ لم ترزق بذرية ولكن الأجل كان أسرع من ذلك فتوفيت في الزبير بعد أيام قليلة من زواجي.

ولعل المشاعر تتلاطم وتخونني التعابير في ذكر مناقب السيدتين ووصف مآثرهن المجيدة، إذ كنت أتعلم في كل يوم يمر علي وأنا بالقرب منهن. هؤلاء السيدات اللاتي نفخر بهن ونتحلى بالحديث عنهن وسرد قصصهن حيث لم تكونا مجرد أختين في مجتمع قروي صغير، بل كانتا معلمتين من طراز فريد ونادر وأخاذ.


>>Click here to continue<<

الجوهرة العنقري




Share with your best friend
VIEW MORE

United States America Popular Telegram Group (US)