TG Telegram Group & Channel
عبدالله الوهيبي | United States America (US)
Create: Update:

‏حكى أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا روبرت هاين في سيرته الذاتية (وهي سيرة فريدة، لأن مؤلفها عايش العمى مدة 15 عامًا، ثم أجريت له عملية جراحية فاستعاد بصره جزئيًا مرةً أخرى) عن حالات الاكتئاب التي تصيب غالبية المتعافين من العمى، لأن المبصر حديثًا يعاني من ضرورة تنظيم انطباعاته عن الحس الجديد، وتحمّل مسؤولياته بوصفه مبصرًا، وربما ينزعج جراء زوال الاهتمام (أو التميّز) أو الإعجاب الذي كان يحظى به.
‏ويشير هاين إلى ملحظ دقيق يولّد هذا الشعور الممض في النفس، فالأعمى كان يتخيّل –والخيال ميدانه الأرحب- ما ينتظره من المباهج ولذّات العيون اللامتناهية لو أبصر يومًا، فإذا أنعم الله عليه بذلك لا يجد الواقع كما كان يبدو في خياله، بهيًّا برّاقًا؛ فيحزن بسبب «خيبات الأمل التي يراها، بالمقارنة مع ما تخيّله سابقًا في مقدار ما فاته خلال سنوات العمى» كما يقول.
‏وهو يعبّر بوضوح عن شوقه لأيام العمى، ويذكر سببًا هامًا لهذا الشوق، وهذا السبب يمثّل -في الوقت نفسه- مصدرًا من مصادر الكآبة الناجمة عن عودة الإبصار، وهو دور العيون في تشتيت الانتباه وفقدان التركيز، «وصعوبة العثور على العالم الداخلي»، فالنفس في هذه الحالة يكثر اضطرابها «لوفرة المنبهات [المرئية] الفائقة، والتيار المستمر من الانطباعات المتزامنة» المتولّدة عن ذلك، وهذا معروف ذائع، وإنما يغيب عن حسّ معظم المبصرين وشعورهم؛ بسبب طول الاعتياد، وتبّلد الذهن حياله، وإلا فإن انفلات البصر يشوّش النفس ويبعثرها، و«نحن نرى الإنسان إذا أراد أن يتذكّر شيئا نسيه، أغمض عينيه وفكّر، فيقع على ما شرد من حافظته» كما يلاحظ صلاح الدين الصفدي (ت764هـ)، إلا أن حداثة تجربة المبصر بعد عمى بهذا التشوش والتبعثر تكون أشدّ وأعظم بلا ريب.
ومن طريف ما يذكر في هذا الصدد، أن الفقهاء حين اختلفوا في المقارنة بين إمامة الأعمى والبصير في الصلاة، ذهب الفقيه الكبير أبو إسحاق الشيرازي (ت476هـ) رحمه الله إلى أن الأعمى أولى بإمامة الناس من المبصر؛ «لأنه لا ينظر إلى ما يلهيه ويشغله، فيكون أبعد عن تفرّق القلب وأخشع»، والخشوع –كما لا يخفى- هو لبّ الصلاة ومقصودها، ولذا اختار بعض الفقهاء من الشافعية وغيرهم أنه لا يكره تغميض العينين في الصلاة لمن احتاج إلى ذلك، بل ذهب العز بن عبدالسلام (ت660هـ) إلى أنه يندب التغميض لمن صلّى وأمامه ما يشوّش فكره ويفرّق قلبه؛ كزخارف السجاد والحوائط ونحوها.

‏من تدوينة سابقة بعنوان «الأصابع المبصرة».

‏حكى أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا روبرت هاين في سيرته الذاتية (وهي سيرة فريدة، لأن مؤلفها عايش العمى مدة 15 عامًا، ثم أجريت له عملية جراحية فاستعاد بصره جزئيًا مرةً أخرى) عن حالات الاكتئاب التي تصيب غالبية المتعافين من العمى، لأن المبصر حديثًا يعاني من ضرورة تنظيم انطباعاته عن الحس الجديد، وتحمّل مسؤولياته بوصفه مبصرًا، وربما ينزعج جراء زوال الاهتمام (أو التميّز) أو الإعجاب الذي كان يحظى به.
‏ويشير هاين إلى ملحظ دقيق يولّد هذا الشعور الممض في النفس، فالأعمى كان يتخيّل –والخيال ميدانه الأرحب- ما ينتظره من المباهج ولذّات العيون اللامتناهية لو أبصر يومًا، فإذا أنعم الله عليه بذلك لا يجد الواقع كما كان يبدو في خياله، بهيًّا برّاقًا؛ فيحزن بسبب «خيبات الأمل التي يراها، بالمقارنة مع ما تخيّله سابقًا في مقدار ما فاته خلال سنوات العمى» كما يقول.
‏وهو يعبّر بوضوح عن شوقه لأيام العمى، ويذكر سببًا هامًا لهذا الشوق، وهذا السبب يمثّل -في الوقت نفسه- مصدرًا من مصادر الكآبة الناجمة عن عودة الإبصار، وهو دور العيون في تشتيت الانتباه وفقدان التركيز، «وصعوبة العثور على العالم الداخلي»، فالنفس في هذه الحالة يكثر اضطرابها «لوفرة المنبهات [المرئية] الفائقة، والتيار المستمر من الانطباعات المتزامنة» المتولّدة عن ذلك، وهذا معروف ذائع، وإنما يغيب عن حسّ معظم المبصرين وشعورهم؛ بسبب طول الاعتياد، وتبّلد الذهن حياله، وإلا فإن انفلات البصر يشوّش النفس ويبعثرها، و«نحن نرى الإنسان إذا أراد أن يتذكّر شيئا نسيه، أغمض عينيه وفكّر، فيقع على ما شرد من حافظته» كما يلاحظ صلاح الدين الصفدي (ت764هـ)، إلا أن حداثة تجربة المبصر بعد عمى بهذا التشوش والتبعثر تكون أشدّ وأعظم بلا ريب.
ومن طريف ما يذكر في هذا الصدد، أن الفقهاء حين اختلفوا في المقارنة بين إمامة الأعمى والبصير في الصلاة، ذهب الفقيه الكبير أبو إسحاق الشيرازي (ت476هـ) رحمه الله إلى أن الأعمى أولى بإمامة الناس من المبصر؛ «لأنه لا ينظر إلى ما يلهيه ويشغله، فيكون أبعد عن تفرّق القلب وأخشع»، والخشوع –كما لا يخفى- هو لبّ الصلاة ومقصودها، ولذا اختار بعض الفقهاء من الشافعية وغيرهم أنه لا يكره تغميض العينين في الصلاة لمن احتاج إلى ذلك، بل ذهب العز بن عبدالسلام (ت660هـ) إلى أنه يندب التغميض لمن صلّى وأمامه ما يشوّش فكره ويفرّق قلبه؛ كزخارف السجاد والحوائط ونحوها.

‏من تدوينة سابقة بعنوان «الأصابع المبصرة».


>>Click here to continue<<

عبدالله الوهيبي




Share with your best friend
VIEW MORE

United States America Popular Telegram Group (US)