في زمنٍ امتلأ بالضجيج، وتسارعت فيه الأيام، وضاعت فيه اللحظات بين إشعارٍ ورسالة، ومكالمةٍ ومنشور...
صار الليل، الذي كان في السابق سكونًا للروح وراحةً للقلب، مجرّد وقتٍ يُقضى في التصفح والتسلية، لا أكثر.
فكم من ليلةٍ مضت... كنت فيها قريبًا من الهاتف، وبعيدًا عن الرحمن.
كم من ساعاتٍ طويلة أمضيتها تحدّق في شاشةٍ باردة،
في حين كان ربّك الكريم ينتظرك على سجادةٍ صغيرة، في ركنٍ دافئ،
يقول لك: "هل من تائب؟ هل من مستغفر؟ هل من سائل فأعطيه؟"
وأنت... غافل.
غافل عن بابٍ لو طَرَقته، لانفتحت لك أبوابٌ في الأرض والسماء.
غافل عن سجدةٍ واحدة قد تُطهّر ذنوبك، وتداوي جروحك، وتقرّبك من نورٍ لا يزول.
غافل عن لحظة مناجاة قد تُغيّر قدرك، وتكتب لك بداية جديدة.
أي صفقة هذه يا صاحبي؟
تستبدل النور بالظلمة، والسكينة بالقلق، والقرب بالهجر؟
الهاتف الذي بين يديك ليس عدوّك، لكنه سلاح ذو حدين.
إن جعلته أداة للخير، نفعك.
وإن جعلته شاغلًا عن الله، أهلكك.
انظر لنفسك لحظة صدق:
متى آخر مرة بكيت فيها بين يدي الله؟
متى آخر مرة قُمت في جوف الليل، وقلت: "يا رب، ليس لي سواك"؟
متى آخر مرة أطفأت كل شيء، وجلست فقط مع القرآن، مع خالقك، مع روحك؟
إن كنت لا تذكر، فاعلم أنك خسرت كثيرًا.
ولكن... لا تيأس.
لأن الله لا يغلق بابه أبدًا.
الله ينتظرك كل ليلة، في السحر، في السكون،
لا يملّ من سماعك، لا يكلّ من عطائك، لا يُعجِزه ذنبك، ولا يخذلك إن عدت.
عد إليه،
ولو كنت مكسورًا.
ولو كنت مثقلًا بالذنوب.
ولو كنت مُبتلى، حزين، تائه، مضطرب.
فربّك هو الذي قال: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله."
هو الذي يغفر، ويجبر، ويهدي، ويُكرم، ويحنو، ويرحم، ويُبدّل السيئات حسنات!
يا صاحبي، اجعل لنفسك موعدًا مع الله كل ليلة.
موعدًا لا يُؤجّل، لا يُلغى، لا يُستبدل.
ساعة تخلو فيها بنفسك، في ظلمةٍ صافية،
تتوضأ، تقف، تركع، تسجد...
وتهمس من قلبك: "اللهم إني عبدك، وأنا ضعيف، وأنت الكريم، فارحمني."
لا تقل: من أنا حتى يقبلني الله؟
بل قل: من هو الله حتى يردّني؟
وهو الذي قال: "إني لأجد ريح عبدي إذا قام من الليل."
اجعل هاتفك في وضع الصمت، وضع قلبك في وضع الإصغاء.
أطفئ إشعارات الدنيا، وافتح إشعارات السماء.
دع الهاتف جانبًا، وافتح المصحف،
اقرأ ولو صفحة، تأمّل ولو آية،
فربما كلمة تهزّ قلبك، وربما دعوة تغيّر مستقبلك.
في السحر، تتبدّل الأقدار.
في السحر، تُغفر الذنوب.
في السحر، تُجاب الدعوات.
في السحر، يتجلّى الله على عباده، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟
فهلّا كنت منهم؟
يا ابن آدم...
العمر يمضي، والفرص لا تتكرر،
وما أسرع ما تنطفئ الدنيا، وما أبطأ ما يضيء القلب إن غفل.
تخيّل أن آخر لحظة في حياتك كانت أمام شاشة، تقلب الصور،
بينما كان باب السماء مفتوحًا... وأنت لم تطرقه.
اجعل شعارك من الآن:
ليلي لله...
ونهاري للخير...
وهاتفي وسيلة لا حياة.
تذكّر:
الهاتف في يدك... لكن الآخرة أمامك.
فاختر ما يدوم، واترك ما يزول.
>>Click here to continue<<