الحلقة الأخيرة...
صباح سماءه غائمة، لا شيء يفوق الطيور حيوية فيه، بعضها يغني للحرية والآخر يرفرف معبرًا عنها، في صغري اخترعت خُرافة وصدقتها وهي بأن دخان الحرائق يتصاعد للسماء لتتكون السحب، وإن كانت هذه الخرافة ساذجة إلا أنها تكاد تلمس الحقيقة، حقيقة أن رغم هذه الحرائق التي تخلفها الحروب يمن الله علينا بهواء بارد وسماء ملبدة بالغيوم.
كل شيء جميل، الصباح، السماء، الطقس، وجه أمي، وبالطبع لا يبدأ يومي إلا بمغازلتها " يا أمي والله محتار في الشباب العايز يعرس ده، هسي عليك الله انا اصابح قمر زي ده وافكر اعرس؟" ابتسمت بخجل وفجأة امتنعت عن الابتسام وكأنها تذكرت شيء "يا وسخ ما بتفكر في العرس وايمان دي دايرها خدامه عندك؟"
سرحت بخاطري وكأن إيمان كانت القطعة الناقصة ليكتمل جمال هذا اليوم، قفزت من سريري ووقفت خارج باب المنزل وامامي مجموعة من الصبية يلهون فناديت واحد منهم واقترب مني في فتور " اسمعني بتعرف بيت التومات؟"
الصبي : ااي بعرفهم جنب بيت ناس قرشي الأطرش
_ طيب خلاص امشي دق الباب وقول ل إيمان محمد منتظرك جنب التبلدية.
انطلق الصبي بحماس بعد أن أعطيته مبلغ لا بأس به بالنسبة لطفل بينما انتظرت انا تحت الشجرة، العب بأغصان الشجرة تارة واطوف حولها تارة أخرى، فكل تفكيري الآن هو فيما سأقوله لإيمان، أريد حقاً أن أعبر عما يجول بداخلي.
لمحت إيمان من بعيد وعندما اقتربت تأكدت بأنها شقيقتها التوأم اماني لا أدري كيف ميزت بينهم فالاختلاف بينهم منعدم، "اماني كيفك؟" فردت متعجبه : عرفتني كيف يااخ كنت بفكر اعمل ليك مقلب لأنو الشافع الرسلتو جاني انا ما فات لإيمان.
"إيمان بشوشه ما حصل جاتني صارة وشها كده"
_ يا بختها بيك والله لأنو للآن ابوي ما قادر يفرق بيناتنا، المهم كلمت إيمان هسي بتجي.
غادرت اماني ولم يمضي كثيراً حتى جاءت إيمان وكلانا يبتسم للآخر وكأننا نحتفل بإجتيازي الاختبار الذي نصبته لي أماني.
إيمان كيفك؟
_ كويسه الحمد لله وانت..؟
كويس والله بس مشتاقين وكده!.
_ ما اتوقعتك تقدر تميز بيناتنا.
والله ما حسيت بالشعور لما شفت اماني.
_ ياتو شعور ما فهمت؟
حتى انا ما فاهمه بس هو شعور غريب هسي حاسي بيه.
_ طيب احكي ليه طلبت تقابلني.
والله عايز اقول ليك حاجه!.
_ وانا كمان عايزه اقول ليك حاجه.
طيب قولي.
_ ما عارفه اقولها كيف يا محمد وبسببها أمس ما قدرت انوم اليوم كله.
احكي يا ايمان في شنو وترتيني.
_ نحن حنرحل يا محمد وحنمشي الشمالية وابوي ح يبيع بيتنا يعني ما اظن نرجع تاني بس نفسي اشكرك على وقفتك معانا وكل ناس بيتنا نفسهم يشكروك بالجد ما قصرت.
تلاشت كل احلامي وتبخرت ولم أستطع بأن أرد عليها وماذا سأقول؟ جمعت ما تبقى لي من قوة وتلعثمت " والله الحي حيفقدكم وطبعاً أهم شي سلامتكم وان شاء الله تكونوا بخير وين ما مشيتو".
_ ونحن كمان حنفقدكم والله.
طيب خلاص انا ح أمشي ولو محتاجين مساعده في نقل العفش كلموني.
_ ماشي وين؟ ومفروض انك عايز تقول حاجة برضو!.
لالا تاني ما مهم الحقولو.
_ كيف يعني ما مهم كنت عايز تقول شنو؟
كنت أحاول الهرب من إيمان لتدارك دموعي التي قاربت أن تفضحني أمامها، فتمردت دمعة ونزلت غصب عني لترد إيمان بسيل من الدموع كلانا استدار وبدأ يبكي بعيداً عن وجه الآخر وكأننا لم نكن مستعدين لنرى ضعفنا.
إيمان والله كنت عايز اعترف ليك اني بحبك من أول مرة شفتك فيها بس ما كنت جاهز للحاجه دي، فكرت كتير في مستقبلنا مع بعض، كيف حيكون شكل اولادنا وكيف ح تكوني بعد عشرة سنة وانت بتشكي من تربية الاولاد وضغط الشغل، انت الحاجه الوحيده الحلوة الحصلت لي في الحرب دي ولو كنت عارف انو الحرب حتعرفني عليك كان عملت ألف حرب عشانك، انا نفسي أعيش معاك العمر كله!.
_ الحمدلله إنك قلتها وقدرت اسمعها منك لأني حبيتك شديد وما قدرت أوصل ليك احساسي، انت اجبرتني احبك بلطافتك وطيبتك البتغمرني بيها دي كأنك بتعاملني كملكة ليك وكأنك ما شايف بت غيري، انا عرفت نفسي بحبك من اللحظة البقيت بفتش فيها لطريقه اقابلك بيها.
انا ح انتظر الحرب دي تنتهي عشان نتلاقى تاني ولو ما عشتا للزمن داك اعرفي إني حاولت أعيش بس قدري كان ليهو كلمة.
_ بعد الشر يا محمد انا واثقه ح نتلاقى تاني وتالت.
ودعتها وكأنها المرة الأخيرة واحتفظت بملامحها عند الوداع لاتذكرها في كل مساء، ذهبت معها لأساعدهم في نقل اثاثهم بالرغم أنني منهار ولا املك ذرة طاقة!.
لمحت فوج من بعيد يشيعون جنازة، وكان الفوج غفير وكأنه شخص مهم ساقني الفضول إليهم حتى تبعتهم إلى المقابر وفور أن خلص الجميع من دفنه توجه الجميع نحوي بشكل مفاجئ، إنهم يعزوني واحد تلو الآخر وانا لا أفهم ما الذي يحدث "البركة فيك يا اخوي ربنا يصبرك" وانا واقف متجمد وكأني لا أريد أن أسأل من الذي توفى وفجأة إقترب مني شقيق خطاب واحتضنني بقوة وأخذ يبكي بحرقة وانا أردد "لالالالا مستحيل" رد شقيق خطاب مواسياً " ما خسارة في ربه يا محمد وربنا يصبرك على فقده لأنو هو زاتو كان بحبك شديد زي ما انت بتحبو
>>Click here to continue<<