الحلقة العاشرة...
سئمت الجلوس بالمنزل، أشتهي سماع زمجرة الحشود، أود رؤية أكبر قدر من البشر لأشبع عيني بهيئتهم وملابسهم حتى اشكالهم، اشتقت لهتافات الثورة والأغاني الجماعية، إشتقت لرائحة الغاز المسيل للدموع، اشتقت لنفسي! خرجت من المنزل لأبحث عن أُناس اُسامرهم حتى لا أكتوي بنار الشوق!.
هناك عند أسفل الشجرة يجلس مجموعة من العجزة بجانبهم حافظة مياه وإبريق للشاي يتناولون المواضيع برفق وتأمل وكأن هذا كل ما بإستطاعتهم فعله حتى القهقهة تُتلى بسكينة وكأنهم لا يودون أن تمضي هذه اللحظات سريعاً، جلست معهم بعد تحيتهم فتحدث حاج الصافي " هسي يا جماعه الاطراف دي ما عايزه تصل لحل سياسي؟" أجابه العم سلامة " والله الشغله دي من ما اتدخلت فيها الدول صعب انهم يتفقو وبعدين البرهان ده من شندي ومعروف ناس شندي صعبين ما بتفاوضو بسهولة" قاطعه حاج الأمين في استغراب " البرهان هو من شندي؟"
العم سلامة : من شندي كلمني ود اخوي مزارع هناك.
حاج الأمين : لكن قالو زراعتهم السنة ما شاء الله الواحد لو كان في عز شبابو كان مشى زرع.
وهكذا هي أحاديث العجائز تغمرها الفوضى وعدم الترتيب فنقاشهم بدأ بسؤال عن السياسة وانتهى بإجابة عن الزراعة!.
توجهت نحو شجرة أخرى يجلس تحت فروعها مجموعة من الشباب فصاح احدهم " شنو يا صلي!" فأجبتة " صل الله عليه وسلم" إلا أنني ادركت لاحقاً بأنه لم يطلب مني الصلاة على الرسول بل كان يستفسر عن حالي وأصل الجمله هو " شنو يا أصلي" شعرت بأنني أكبرهم بسنوات بالرغم من أنهم في سني.
جلست كالأبله اسمع حديثهم فقال أحدهم بعد أن أشعل "سيجارته" : اها يا شباب السحنوكة شنو؟ " الحنك شنو لغير الناطقين بها"رد له آخر : اسألوا معتز كرامات داك بدينا الزيت كلو .
إن معتز كرامات هذا مشهور بالولائم تجده في كل مكان تُذبح فيه بهيمة أو تُنحر فيه ناقة، ولهذا السبب هو ضخم الجثة بالكاد يتنفس لأن الدهون تضغط على شعبه الهوائية فيجد الهواء صعوبة بالدخول والخروج، إنه مُلم بكل أخبار الحي التي تخص الولائم، فعندما سألوه "الحنك شنو" أخرج ورقة ضخمة من جيبه وأخذ يتلو لنا البيان أدناه :
"اول حاجه في سماية في بيت ناس الطاهر يونس لأنو قبل اسبوع لاقيت شافع بوزع حلاوة في المستشفى وسألتو حقت منو وكده، ثانيا الليلة مفروض ابو ناس حسام عيسى الله يرحمه يتم الأربعين وبتوقع يعملو كرامة الليلة، وبرضو بيت الشريف مفروض يعملو كرامة الحج بتاعة ابوهم الليلة بس حسب معلوماتي ابوهم لسه في بورتسودان وان شاء الله أول ما يصل بديكم خبر، وفي بيت برضو نسيت اسم ابوهم أمس جاهم ضيف الساعه اتنين صباحا وحسب معلوماتي الضيف ده عزيز عليهم فالغالب ح يعملو كرامة برضو، بعد ده انتو شوفو دايرين تمشو وين اما انا قايم امشي ليهم كلهم ".
لقد ذُهلت حقاً، التقرير ودقة المعلومات التي ذكرها لا يقوى عليها جهاز الأمن والاستخبارات ولا حتى الإنتربول، تقول الشائعات بأن معتز كرامات اختلف مع والده بعد أن طلب منه والده بأن يعمل وعليه الخجل بأنه لازال يأكل من عرق جبين والده، فقرر معتز كرامات عدم الأكل في المنزل مرة أخرى لأن عزة نفسه لا تسمح له بأن يذله والده بسبب الأكل لذا قرر أن يثبت وجوده في كل وليمة وعادة ما يتجنب الناس الأكل معه في سفرة واحده لأنه وحش بشري.
همست لشاب بالقرب مني "انتو معتز ده ما حاولتوا تهدهو؟ كلامو ده غلط والله!" فرد لي الشاب بتجهم "يا زول دي بقت مهنة عديل ومرات كتيرة بمشي بنبه الناس لو عندهم كرامة زول متوفي او سماية اجلوها اي كرامه بمشي بذكرهم بمواعيدها حتى انا الجنبك ده عندي اخوي اتوفى قبل فترة فكل مرة بجي بسأل معتز عن الزمن بتاع كرامة السنة او الأربعين ".
لم يمضي كثيراً حتى علمت بأن عادة معتز لا تسوى شيء أمام شتائمهم وسبابهم لبعضهم، ناهيك عن التدخين وتناول التبغ، أنا غريب في وسطهم مرة أخرى وكأنني لا أنتمي لهم فغادرتهم أيضاً.
انا ضائع لا أعلم إلى أين انتمي فكومة العجزة تلك ترضي عقلي بأنني واعي ومتعلم ولكنها لا تُرضي سنّي، وكومة الشيبة هذه تناسب عمري ولكن لا تُرضي عقلي! أحياناً أشبه القمر في وحدته وليس في جماله، انا أُحيط نفسي بغرفة بعيدة عن الناس، والقمر يُحيط نفسه بالهالة بعيداً عن النجوم!.
>>Click here to continue<<