TG Telegram Group Link
Channel: ◆♬شاعر الحياة♬◆
Back to Bottom
رسالة إلى صديقة مشرفة على الانتحار

عزيزتي ريتاج
منذ أول سطر سأبدأ حديثي معك بلا مقدمات، تخيلي معي أن شابا في مقتبل العمر، وفي ذات يوم وهو في كامل صحته وعافيته، أوجعته عينه اليمنى، التهاب طفيف وتحسس من الغبار، وفجأة في لحظة جنون قرر أن يفقأ عينه بالكامل، ما رأيك فيما فعله هذا الشاب؟ ماذا ستقولين عنه يا ريتاج؟
اعتقد وبكل تأكيد بأنك ستصفينه بالحماقة والبلادة والغباء، وستسخرين منه أيضا، لأنه عجز عن الصبر لساعات قليلة ريثما يزول ألم عينه أو يأخذ لها علاجا مناسبا، أنا أيضا عزيزتي ريتاج أوافقك الرأي والوصف أيضا، وكذلك الناس يوافقوننا الرأي والوصف، أنا سأعتبره غبيا وعاجزا، إذ كيف يجهل أن بإمكانه وبكل سهولة معالجة عينه وردها إلى وظيفتها الطبيعية، المنتحر كذلك يا ريتاج، إنه مع احترامي لكل آلامه، مع محبتي لكل ما فيه من حزن ووجع ويأس وكآبة، ولكنه كهذا الشاب تماما، إنه شخص عجول وملول، شخص ضيق الرؤية، فبقليل من التأمل أو لنقل بكثير من التأمل، سنرى جميعا أن الانتحار ليس حلا، إنه وحشية فجة بحق هذه الروح التي ترفرف في أعماقنا وتود أن تعيش وتنطلق في مرابع الحياة، الموت هو أبشع الكلمات في قواميس اللغات جميعها، إنه الوجه المضاد للحياة، الوجه المقابل لكل ما هو جميل وحسن في هذه الحياة، وبرأيي أنه لا يوجد أبدا أي سبب منطقي لاقتحام هذه التجربة، لا يوجد أي شيء يمكننا أن نطلق عليه دافعا حقيقيا للانتحار و يستحق الاحترام والتقدير.
كل شيء في الدنيا سينتهي، كل شيء سيزول، الوجع سيزول، الجرح سيزول، المال سيأتي، التعب أيضا سينتهي، قد تقولين نعم كل شيء سينتهي إلا تعبي وضجري من الحياة، فأقول لك عزيزتي ريتاج كلا، إنك تصدرين هذا الحكم الآن وأنت تحت تأثير هذا الضجر، ولو أشرفتي برأسك قليلا وخرجتي من قمقمه ونظرتي من بعيد إليه، لرأيته وهو يستعد في هذه اللحظات نفسها لجمع كل مخلفاته وأدواته لمغادرتك، لرأيته وهو يجمع حطامه ويستعد للذهاب عنك بعيدا، ولكنك واقعة تحت تأثير النظرة الأحادية الجامدة، أليس في الأرض أربع اتجاهات، أليس هناك الشرق والغرب والشمال والجنوب، ولكن من ينظر من جهة واحدة لن يرى غير جهة واحدة.

عزيزتي ريتاج
أشعر بكل تأكيد وبكل عمق بأن السبب الذي قد يدفع الإنسان لإنهاء حياته ليس سببا طفيفا، أشعر أنه سبب عميق، ولكنني أؤكد مرة أخرى أن إنهاء الحياة بهذه الطريقة ليس حلا، لأنها ستنتهي في كل الأحوال ومهما طالت ستنتهي بذاتها؛ لهذا عزيزتي ريتاج من العقل أن ينظر الإنسان لحياته بأنها أثمن ما يملكه الآن، بأنها أغلى الأشياء التي اكتسبها، بكل تأكيد عزيزتي ريتاج، الحياة مليئة بالاكتئاب والوجع، مليئة بالخيبات، مليئة بالقسوة، مليئة بالحرمان والتعب اللانهائي، ولكن لو تأملنا سويا عزيزتي ريتاج لو جدنا أن لذة الحياة تأتي لكونها كذلك، لذتها تأتي لكونها صعبة وفي غاية الصعوبة، فمن يجابه الصعب، ويواجه التعب، ويقاتل الجرح والدموع، سيجد لذة الحياة، ومن يستسلم ويقرر إنهاء حياته، فإنه يحرم نفسه من لذة لا تتكرر، إنها لذة الحياة، قد تقولين وأين هي لذة الحياة مني ومن أمثالي المتعبين؟
سأقول لك عزيزتي ريتاج
إن أكثر الناس شعورا بلذة الحياة هم أولئك الذين يتعرضون لأقوى الأزمات، بشرط أن يكون لديهم أملٌ ما، أملٌ واحد ولو صغير، وما أعجز الإنسان حين يعجز عن إيجاد أمل صغير ليتمسك بالحياة لأجله، هناك الكثير من الآمال، العائلة وإن جحدت، العلم وإن كان متعبا، الحب وإن كان فاشلا، الأصدقاء وإن كانوا خونة، الحياة ذاتها وفي ذاتها أمل يستحق ان نعيشه بكل استماتة، لذا فأكثر الناس شعورا بلذة الحياة هم أولئك الذين يخوضون غمار الحياة لأجل قشة أمل لن تقصم ظهر البعير أبدا، هم أولئك الذين يعيشون على أمل الوصول، ما أجمل المتنبي هذا المجنون المغامر والشاعر الذي ما يأس أبدا حين يصف حالتين بشريتين متناقضتين في بيت واحد فيقول:
"وما صبابة مشتاق على أمل
من اللقاء كمشتاق بلا أمل"
أعرف أيضا أن هنالك شيء يدعى اليأس، ولكن اليأس يا عزيزتي ريتاج هو فكرة يصنعها الإنسان ويقتل بها ذاته، خصوصا حين لا يجد الأسلحة المناسبة من حوله، يضطر لخلق اليأس في داخله ليقتل نفسه به، وإلا فإن الحياة لا يأس فيها، لأنها كما أخبرتك سابقا، ليست اتجاه واحد، ليست غاية واحدة، بل مئات الغايات وآلاف المطامح التي، تستحق العيش من أجلها، قد يطول بي الأمر إن عددت لك ذلك، خصوصا أن لكل بشر على وجه الأرض ما يناسبه من المطامح والغايات، فقط يجب علينا أن نمعن النظر، أن نعيد الفحص، أن نحاول، ربما المحاولة الأخيرة ستكون هي الطريق الصحيح للحياة الصحيحة.

عزيزتي ريتاج
لا أظن أبدا أنك ستضعين كل هذه الجرأة والشجاعة في مكانها الغلط، التفكير في الانتحار بحد ذاته جرأة كافية لو أنك تواجهينها للحياة، فتعيشين بهذه الجرأة والشجاعة، صدقيني أنك حينها لن تظلمي أبدا، لن تنامي حزينة أبدا، لن تخسري أبدا، وإن حدث شيء ما، فسيكون لك شرف المحاولة، فعودي مرة أخرى وجربي قراءة قصص الناجين من الانتحار وستجدين فيها ما يشبهك كثيرا.


زندان التهامي
الرسالة 2


عزيزتي ريتاج
سأكون صادقا معك، واضحا كالشمس وصارما كرصاصة، ريتاج العزيزة أود أن أقول لك، إن الحياة ليست حكرا لأحد، إنها لنا جمعيا، وغريب أن تهربي من قسوة الحياة إلى ما هو أقسى منها وأشد، أن تتركي الفضاء الطليق لتثوي في حفرة صغيرة ضيقة، هل تتصورين معي معنى أن يهال عليك التراب؟، هل تتصورين معي فضاعة أن تصبحي وحيدة في حفرة تحت الأرض؟ غريب مرة أخرى عزيزتي ريتاج أن تعتقدي أن الموت هو أهون الطرق لإنهاء المأساة، غريب أن تفكري أن المأساة ستنتهي إن أغلقتيها بالانتحار، كلا، ليس الأمر كذلك يا عزيزتي، فالحياة أصعب من أن تنتهي بالموت، الحياة ستظل وستظل حتى وإن أطلقتي النار على نفسك، حتى وإن ألقيتي بنفسك من الطابق التاسع، لن تغادر الحياة روحك، جسدك فقط الذي سيذبل، وقد لا يذبل للأبد، قد يظل فيه أمل قوي للحياة فيقضي بقيتها في المستشفى أو مقعدا في سرير البيت عالة على سواه بكل المعاني، الانتحار ليس حلا عزيزتي ريتاج، فتعالي معي لنتحدث قليلا، أعرف أنك مثقلة بالوجع، أن قلبك حزين لدرجة لا تحتمل، أشعر جدا بروحك الكئيبة حد التفكير في المغادرة، أعرف أن أيامك رتيبة، وجدول أعمالك ثقيل جدا، أعرف أنك لا تتقاضين راتبا مجزيا، أعرف أنك تعانين من الاكتئاب، صدقيني أنني لا أبالغ إن قلت لك أنني أعرف كل شيء عنك وأشعر بكل شعور، ليس لأني خارق الإحساس، أو لأني صديقك المفضل، أو لأي سبب آخر قد تتوقعين أنني أدعيه، كلا يا عزيزتي، إنني أشعر بكل ما تعانينه لأنني أساسا أعاني من ذات الوضع الذي تعيشنه، كل الجراح التي التهمت قلبك، هي ذاتها من أكلت قلبي، كل المآسي التي تعيشينها، أنغمس كل يوم في أدق تفاصيلها، مثلك أنا تماما أشعر بالحرمان والاكتئاب الشديد المصحوب بالأرق، مثلك أنا أبذل عشرات الساعات بل مئات في عمل لا تكفيني عائداته لشراء وجبة جيدة، أو قضاء يوم سعيد خارج البيت، ومثلك أنا أيضا فكرت في إغلاق هذه المأساة بالانتحار، ولكني تذكرت بشاعة الموت، تذكرت ألمه وهول وقعته وعمق جرحه للروح، تذكرت كل شيء يتعلق به، ففررت منه ثانية إلى الحياة، ممسك بها كأغلى ما أملك، وها أنا أعيش، ها أنا أربي أملا جديدا في ذاتي لأعيش من أجله، صدقت ألبير كامو وهو يجزم أنه يجب في النهاية أن تتغلب عزيمة الحياة على عزيمة قتل النفس، وها أنا أحاول الاستمتاع بالوجع، إن الفكرة التي اعتقد أنها غائبة عنك هي فكرة الاستمتاع بالحرمان، فكرة مؤاخاة الأحزان، فكرة مرافقة الوجع ومصادقته، فكرة الجلوس في حضن التعب، مداعبته، اتخاذه رفيقا وصاحبا برضى تام، إن الوجع أحن بكثير من الفرح على أرواحنا، إنه صديق لطيف، ليس كذلك المجنون والبشع في مظهره وهو يرقص ناسيا أحزان العالم، والحياة كما نعرفها نحن بوجعها يعرفها غيرنا، الحياة حزينة منذ أن سال دم هابيل، الحياة لنا أو لغيرنا مليئة بالاكتئاب والوجع، وكل بني البشر يعانون ذلك، ولكن الفرق بينهم أن ثمة من يستطيع أن يؤاخي هذه الكوارث الحياتية فيتأقلم معها ويخفيها ويعيش، وثمة من يتركها تعبث بحياته فتقضي عليه، ويجب أن نقف مع النوع الأول لأن الحياة للأقوى، لذا ها أنا آخيت الحزن، واستعدت الأمل في الحياة، ووجدت أن ثمة أسباب كثيرة للحياة، ثمة أوراق لم تسقط بعد، ثمة أمل دائما يخلق من عمق الظلمة، فقط يجب علينا أن ندقق النظر، في نهاية النفق ثمة نور ينتظر، في نهاية المطاف ثمة أصدقاء كثار ينتظرون ابتسامتنا عند الوصول، ثمة أب يعول على ابنته ككل الحياة التي يحب أن يراها، ثمة عائلة قد لا تكون الأفضل في العالم ولكنها في كل الأحوال الأمان والصدق والحنان، ثمة الكثير يا عزيزتي ريتاج، يمكننا الاستناد عليه لمواصلة الحياة، ثمة إحساس غامض في القلب، يجب أن ندعه يكمل مجراه؛ لأن اللذة كل اللذة في نهايته.
عزيزتي ريتاج
صدقيني أن الأمر أسهل بكثير مما تتصورينه، فقط إحساسك المبالغ بالمشكلة هو ما يدفعك للتفكير في إنهاء الحياة، وإلا فإن المشكلة في ذاتها مهما كانت وكيف كانت وعلى أي حد بلغته من التعقيد والتشظي، فإنها مشكلة سهلة وسنجد لها حلا، المال سيأتي، السعادة أيضا ستأتي، الغباء الوحيد هو اليأس، انعدام الأمل، إنه تماما كفقدان البصر، لا يدع الإنسان ليرى في حياته شيئا مهما، لا يتركه ليرى شيئا يستحق البقاء، اليأس يا عزيزتي ريتاج هو عدونا الأول، لا مشاكل الحياة ولا ظروف العمل، ولا الحرمان، ولا الغربة الاجتماعية التي نعيشها، اليأس هو عدونا اللدود، كيف نهزمه إذن؟ بالنظر مجددا في الحياة، بالتأمل في الواقع بإنصاف، سنجد أن ثمة الكثير من الأشياء التي تستحق أن نعيش لأجلها، قبل كل ذلك، نحن نستحق أن نعيش لأجلنا، نستحق الحياة مثل كل البشر، لماذا نتخلى عنها بسهولة، وقد جئناها بأصعب الطرق، صرخات أمهاتنا عند الولادة كفيلة بأن تجعلنا نحافظ على هذه الحياة كأغلى ما نملك.
عزيزتي ريتاج
أنا لن أفرض عليك أمر لا تريدينه، ولكني بثثتك بصدق تام كل ما أراه وما أؤمن به، وما زال في قلبي الكثير، ما زال في روحي شعلة تود أن تضيء على الورق ولكني أخاف أن أطيل عليك فتملين من حديثي، لذا سأنتظر ردك ريثما أستعد لكتابة ما تبقى مما في قلبي.

زندان التهامي
HTML Embed Code:
2024/06/01 02:21:37
Back to Top